في قلب غرب السودان، اختيرت مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، لتكون المقر لحكومة "تأسيس" التي أعلنتها قوات الدعم السريع في ظل حالة الانقسام والحرب التي تضرب السودان. هذا الإعلان لم يأتِ من فراغ، بل وجد أرضية خصبة في إقليم دارفور الذي عانى لعقود من التهميش والحروب والدمار. نيالا، التي كانت يوماً مركزاً تجارياً يعج بالحياة، صارت اليوم مركز سياسي جديد، يطرح تساؤلات كبرى حول مستقبل الإقليم وعلاقته بالمجتمع الدولي. دارفور، تلك البقعة الغنية بالإنسان والأرض، عاشت أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً على وقع الحروب، لتفقد الاستقرار كاملاً ويتشرد أهلها بالملايين. وقد شكّلت الانتهاكات التي ارتُكبت هناك واحدة من أبشع الجرائم في القارة الإفريقية، حيث وجّهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لعدد من كبار المسؤولين السودانيين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير، ووزير الدولة بالداخلية الأسبق أحمد هارون, ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، إلى جانب قائد الميليشيا علي كوشيب الذي يخضع حالياً للمحاكمة في لاهاي. هذه الاتهامات والعقوبات جعلت من دارفور رمزاً للفشل الدولي في حماية المدنيين، ورمزاً لفشل الدولة السودانية في محاسبة من تسببوا في المأساة. اليوم، يدرك قادة "حكومة تأسيس" أن كسب الشرعية يبدأ من الداخل، من قدرة السلطة الجديدة على توفير الأمن والخدمات. إذا ما ضمنت حماية قوافل المساعدات الإنسانية، وفتحت المدارس والمراكز الصحية، وشغّلت البنوك والأسواق، فإنها ستكسب ثقة المواطنين أولاً، وقد يجد المجتمع الدولي نفسه مضطراً للتعامل معها كسلطة أمر واقع، حتى إن لم يمنحها الاعتراف السياسي الكامل. ولعل ما صرّح به مدير الصحة في الأمم المتحدة مؤخراً يكشف هذا التحول، حين قال: "يلزمنا التعامل والتعاون مع الحكومة في نيالا لضمان تقديم الرعاية الصحية للشعب السوداني." إلى جانب ذلك، فإن اختيار شخصيات سياسية ذات ثقل لتولي مناصب قيادية في حكومة تأسيس يضيف لها بعداً آخر في معركة الشرعية. فقد عُيّن عبد العزيز الحلو نائباً لرئيس الحكومة، وهو الذي رفض في وقت سابق المشاركة في حكومة الفترة الانتقالية، ويملك نفوذاً سياسياً وعلاقات خارجية مؤثرة، ما يجعل قبوله بهذا المنصب رسالة قوية عن جدية التوجه الجديد. كما تم تعيين محمد حسن التعايشي رئيساً للوزراء، وهو عضو سابق في مجلس السيادة الانتقالي، وصاحب تجربة سياسية وإدارية عُرف عنها الكفاءة، مما يمنح الحكومة الوليدة قدراً من الاعتراف الداخلي وربما الخارجي أيضاً. هنا يطلّ السيناريو الليبي كمثال حي. في ليبيا، عاش العالم سنوات من التعامل مع حكومتين متوازيتين: حكومة في طرابلس وأخرى في شرق البلاد، حيث اختار المجتمع الدولي الاعتراف بإحداهما لكنه في الوقت نفسه اضطر للتواصل والتنسيق مع الأخرى في ملفات إنسانية وأمنية. قد يتكرر المشهد ذاته في السودان، حيث يصبح على المجتمع الدولي أن يوازن بين المواقف السياسية الرسمية وبين ضرورات التعامل مع حكومة تؤمّن الميدان وتفرض سيطرتها على الأرض. المعضلة الأكبر تبقى في موقف قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الذي اختار طريق الحرب ورفض فرص السلام، مما عمّق الانقسام الجغرافي والسياسي. هذا التعنت فتح الباب واسعاً أمام سيناريو التقسيم، وجعل من إعلان حكومة تأسيس في دارفور أمراً أكثر واقعية من مجرد تهديد سياسي. ومع استمرار الحرب، يصبح احتمال الاعتراف الدولي بحكومة تأسيس ولو بشكل غير مباشر أقرب إلى الحدوث. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل سيتعامل المجتمع الدولي مع حكومة تأسيس في نيالا كما تعامل مع سلطات شرق ليبيا، أي عبر الاعتراف الضمني والتواصل العملي دون الاعتراف الرسمي؟ أم أن دارفور ستدخل مرحلة جديدة تجعلها أول إقليم سوداني يفرض نفسه كسلطة مستقلة مكتملة الأركان؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة