في مساهمته الأخيرة، قدّم أمجد فريد رؤية جريئة حول المهدية بوصفها واحدة من أبرز محطات التاريخ السوداني التي يجري تسليحها في الخطاب السياسي المعاصر. وهو يضع يده على الجرح حين يبين أن استدعاء المهدية لم يعد مجرد عودة إلى حدث تاريخي، بل أصبح أداة للصراع على الشرعية والهوية. فالذاكرة هنا تتحول إلى سلاح رمزي: إما أن تُقدَّم المهدية كملحمة للتحرر الوطني، أو تُدان كرمز للاستبداد. وفي الحالتين يغيب التعقيد التاريخي لصالح التبسيط الأيديولوجي. لكن الرؤية تحتاج، لكي تكتمل، إلى إدخال أبعاد إضافية تعمّق النقد وتحوّله إلى بدائل. فالاقتصاد السياسي، مثلاً، يكشف لنا أن الهوية لا تُستخدم إلا لتغطية الصراع على الموارد وإخفاء البنى الفاسدة التي تعيد إنتاج علاقات القوة الطبقية. وحين نقارن آليات توظيف تاريخ المهدية مع توظيف تاريخ ثورة 1924 أو انتفاضة أبريل 1985، نجد نمطاً متكرراً: استدعاء الذاكرة التاريخية لا يتم بهدف الفهم، بل لتسويغ الحاضر وتبرير خياراته السياسية. من هنا يصبح النقد خطوة أولى لا بد أن تتبعها محاولة لاقتراح بديل. فبدلاً من الاكتفاء بإدانة "تسييس التاريخ"، يمكننا الدعوة إلى كتابة "تاريخ متعدد الأصوات"، لا يدّعي الحياد الزائف بل يمنح مساحة لروايات المهمشين من الجنوب ودارفور والنساء والعبيد السابقين. هذا الانفتاح يكسر احتكار السردية الوطنية من قبل النخب المتصارعة، ويعيد للتاريخ بعده الحي لا المسلّح.
وتفكيك الأسطورة يحتاج إلى أدوات عملية. أبرزها التعليم، الذي يمكن أن يقدم المهدية كظاهرة معقدة تحمل إنجازات وتناقضات معاً، بدلاً من تقديمها كأسطورة مقدسة أو كيان شيطاني. كما يجب أن يتحول النقاش من "هل كان الخليفة شريراً؟" إلى "أي سياقات اقتصادية واجتماعية جعلت الدولة المهدية تنحو نحو السلطوية؟". بهذا الشكل يصبح النقاش أكثر علمية، ويكشف عن جذور الأزمات التي لا تزال تتكرر حتى اليوم: اقتصاد الريع، تحالفات النخب، وخصخصة العنف.
وهناك حاجة أيضاً إلى فضح التناقضات الداخلية في الخطاب نفسه. فاليسار السوداني – الذي ينتمي إليه أمجد فريد – وقع بدوره في تمجيد انتقائي لرموزه في الستينات، متجاهلاً تناقضاتهم، بينما ينتقد الآخرين لتمجيد المهدية. كذلك فإن ادعاء الموضوعية الأكاديمية لا يخلو من تحيز، والاعتراف بهذا التحيز يجعل التحليل أكثر صدقاً. أما مفهوم "التحرر" نفسه فيحتاج إلى مراجعة: فالمهدية حررت الشمال من الحكم التركي المصري لكنها قمعت الجنوب بقسوة، ما يفرض إعادة تعريف للتحرر يشمل كل المجتمع لا نخبه وحدها.
الأهم أن التاريخ يمكن أن يتحول من أداة صراع إلى أداة مصالحة. المطلوب التركيز على الدروس بدلاً من الاستعارات. فبدلاً من القول إن "الدعم السريع هو خليفة جديد"، يجب أن نقول: "إن فشل الثورة في بناء مؤسسات ديمقراطية شاملة هو ما فتح الطريق أمام قوى مثل الدعم السريع". بهذا يصبح الماضي وسيلة لفهم إخفاقات الحاضر لا لإعادة إنتاج أساطير قديمة. وهنا يبرز مشروع بناء ذاكرة وطنية جامعة تتضمن ضحايا المهدية وضحايا الأنظمة السابقة وضحايا الحرب الحالية، دون إنكار أو إقصاء. ويمكن أن يكون للأرشيفات الشفوية والمتاحف الوطنية دور كبير في هذا المسعى.
* طرح أمجد فريد يفتح الباب لمساءلة جريئة للتاريخ السوداني، لكن توسيع أفق هذا الطرح ليشمل الاقتصاد السياسي، والتجارب المقارنة، والاعتراف بالتحيزات، وتحويل التاريخ من سلاح إلى أداة للمصالحة يجعل من النقاش أكثر ثراءً وأقرب إلى تقديم بدائل حقيقية. فالتاريخ ليس ميداناً لإعادة إنتاج الأساطير بل مجال لفهم تعقيدات السلطة، وكشف جذور الأزمات، وصياغة ذاكرة وطنية تسع الجميع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة