من ماركس إلى القبيلة: سقوط الأستاذة هنادي فضل في فخ الوعي الزائف كتبه خالد كودي

الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-19-2025, 00:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-04-2025, 01:44 PM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من ماركس إلى القبيلة: سقوط الأستاذة هنادي فضل في فخ الوعي الزائف كتبه خالد كودي

    01:44 PM September, 04 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر






    3/8/2025 ، بوسطن

    ١/ الموقف من التاريخ- من الحكاية إلى البنية:
    مقال الأستاذة هنادي فضل، القيادية في الحزب الشيوعي السوداني وعضوة اللجنة المركزية للحزب الذي لاقى انتشاراً واسعاً في الفضاءات الإلكترونية، يقوم على استدعاء تجربة شخصية - عائلية، وتحويلها إلى مدخل لتفسير التاريخ والحاضر معاً. هنادي تروي أن أسرتها في الشمال النيلي تعرّضت في أواخر القرن التاسع عشر لما تعتبره "مجازر عبد الله التعايشي" إبان سنوات المهدية (1885–1898). فهي تسرد، اعتماداً على الروايات الشفوية المتوارثة في الأسرة، أن قوات التعايشي ارتكبت أعمال قتل واغتصاب، وأن نساء من أسرتها فضّلن الانتحار في النيل على الوقوع في الأسر، بينما لجأ رجال من العائلة إلى القتال انتقاماً، ثم إلى النزوح نحو مناطق أخرى في الجزيرة... الخ روايتها...
    هذه الذاكرة، التي تعود إلى صراع تلك الحقبة، تتحوّل عند الأستاذة هنادي إلى سردية سياسية ذات بعد أخلاقي - قبلي. فهي لا تضع تلك الأحداث في إطارها التاريخي البنيوي – أي صراع الدولة المهدية مع الاستعمار التركي - المصري من جهة، ومع البُنى الداخلية للإقطاع وخدام الاستعمار من جهة أخرى – بل تعيد قراءتها عبر منطق الثأر. التعايشي، وأتباعه، بل ونسله، يصبحون في خطابها "جلادين أبديين"، بينما يُنصّب الشمال النيلي باعتباره "ضحية أبدية."
    ولأنها تربط الماضي بالحاضر، فإن الأستاذة هنادي لا تتردّد في إسقاط هذه الذاكرة العائلية على الواقع الراهن، حيث تعتبر أن "الجنجويد" ليسوا سوى الامتداد الحديث لذلك "الجلاد التاريخي"، لأنهم ينتمون إلى نفس المجموعة الإثنية التي انحدر منها عبد الله التعايشي. هكذا تتحوّل المأساة العائلية إلى عدسة تُقرأ بها كل صراعات السودان، وتُفسَّر عبرها الجرائم المعاصرة.
    لكن هذه الصياغة، مهما بدت مشحونة بالعاطفة، لا يمكن وصفها بالتحليل التاريخي- المادي التاريخي. بل هي مثال صارخ على ما سماه ماركس بـ الوعي الزائف.
    (False Consciousness)
    إذ تختزل الأستاذة هنادي الصراع التاريخي والاجتماعي في صورة ثأرية بين قبائل وأعراق، وتحوّل التاريخ إلى مسرح أخلاقي حيث تتبدّل الأدوار بين "ضحية" و"جلاد". بهذا يتم حجب الحقيقة المادية للصراع، وهي أن المهدية لم تكن مجرد مشروع "قبلي متوحش"، بل كانت نتاجاً لأزمة اجتماعية - كبرى، ولبنية طبقية تحاول أن تعيد إنتاج السيطرة عبر خطاب ديني وتعبئة عسكرية – او هكذا يكون الامر ماركسيا!
    الخطاب الذي تقدّمه هنادي إذن لا يقدّم وعياً ثورياً، بل يكرّس وعي الذاكرة على حساب وعي البنية: فبدلاً من أن يكون الماضي أداة لفهم التناقضات الطبقية والسياسية التي أنتجت الدولة المركزية وأجهزتها، يُعاد إنتاجه كذاكرة دم تُغذّي الأحقاد وتفتح الطريق أمام قراءة قبَلية للتاريخ والحاضر!
    يكتب ماركس في البيان الشيوعي مايعني:
    وليس تاريخ "المذابح الأبدية" بين قبائل وأعراق. ،"التاريخ كله تاريخ صراع الطبقات"
    ومن ثم، فإن القراءة العلمية الماركسية للتاريخ تقتضي تجاوز السردية القَبَلية والولوج إلى تحليل البنية المادية التي أنجبت الحروب: اي الدولة المركزية، علاقات الإقطاع، بنية الاستغلال، وآليات العنف السلطوي، ولا مش كده؟
    إن الخطابات القائمة على الذاكرة القبلية كثيراً ما تتحول إلى أدوات سياسية لإعادة إنتاج الاستقطاب الإثني في السودان. وما طرحته الاستاذة هنادي فضل عن "مجازر التعايشي" وربطها بجرائم "الجنجويد" اليوم ليس سوى استمرار لهذا النمط: خطاب يختزل التاريخ في ثأر قبلي وأخلاقي، ويغفل البنية العميقة التي تحكم حركة المجتمع... واليوم يوم تأسيس!
    ومن منظور ماركسي- جدلي، مثل هذه المقاربة لا تُنتج وعياً ثورياً، بل تُعيد إنتاج الانقسام الإثني، بينما المطلوب "ماركسيا" هو تفكيك الجذور الطبقية والمادية التي جعلت من القبيلة أداة للهيمنة، ومن الذاكرة أداة لإدامة السلطة.

    ٢/ المادية الجدلية ضد الحتمية الأخلاقية:
    خطاب الاستاذة هنادي يضع "عبد الله التعايشي" في خانة "الجلاد التاريخي" بوصفه رمزاً أبدياً للشر، في استعادة مباشرة لخطاب الحتمية الأخلاقية الذي يُدين الأفراد والجماعات كأنهم كيانات خارج التاريخ. هذا النمط من التفكير يختزل التاريخ في ثنائية خير وشر، وينزع عنه شروطه المادية.
    لكن المادية الجدلية تعلّم أن الظواهر لا تُفهم إلا عبر التناقضات المادية التي أنتجتها. وعليه، التعايشي لم يكن "وحشاً فردياً" بقدر ما كان نتاجاً لصراع طبقي - سياسي في دولة المهدية، حيث تداخلت المقاومة الشعبية ضد الاستعمار التركي- المصري مع إعادة إنتاج علاقات استغلال جديدة داخل جهاز الدولة الناشئة. وهنا نستعيد ما قاله لينين في حول المسألة القومية مايعني:
    "ينبغي أن نحلل كل ظاهرة لا باعتبارها معزولة، بل في شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي ولّدتها"
    بهذا المعنى، المهدية لم تكن محض "غزو قبلي" لاثنية الأستاذة هنادي ومعاها عمسيب كمان ومن لف لفهم، بل كانت ساحة لصراع بين قوى اجتماعية متنافرة: الاستعمار الخارجي، الفئات المهيمنة، والطبقات الشعبية المقهورة وحتي النخب المتواطئة مع مراكز القوي حينها-أي الفئات المهيمنة والاستعمار، مجتمعين او منفردين! إنها لحظة تاريخية تكثّف فيها التناقض بين مشروع التحرر ومشروع السلطة... وكما كتب ماركس في البيان الشيوعي مايعني:
    "إن تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا ليس سوى تاريخ صراعات طبقية"
    فلا يمكن قراءة تاريخ السودان عبر سرديات الدم والقبيلة، بل عبر التناقض بين الطبقات المسيطرة التي ورثت أدوات القمع من المهدية إلى الدولة الحديثة، والطبقات الشعبية التي استمرت في المقاومة.

    وإذا أسقطنا هذه القراءة "الماركسية" على حاضر السودان، تبيّن أن استدعاء خطاب "المجازر القبلية" ليس سوى تعبير سافر عن الوعي الزائف الذي يُستخدم لحجب التناقضات الجوهرية التي تشطر المجتمع. فالصراع الحقيقي ليس، كما تُوحي هنادي، بين قبيلة وأخرى بهذه السذاجة، بل بين المركز المهيمن والهامش المقاوم، وبين أجهزة القمع العسكرية – الجيش و"الجنجويد حينها" – من جهة، والشعب الساعي للتحرر من جهة أخرى، وهذا ليس كل شيئ، ولانهاية مفردات التقاطع.....
    المفارقة التي يبدو أن الأستاذة هنادي، القيادية في الحزب الشيوعي السوداني، لا تراها، أن قوات الدعم السريع التي صارت بندقية مصوَّبة نحو الجيش بحرب 15 أبريل ، إنما هي في الأصل نتاج لنفس الجيش السوداني وبنيته: شكّلها، درّبها، ورعاها كجزء من استراتيجيات الدولة المركزية والنخب التي تنتمي إليها لقمع المهمشين . هذا التناقض النوعي – أن الدولة تُنتج بنفسها أعداءها – كان حرياً بالاستاذة هنادي أن تتناوله بالتحليل الماركسي الجدلي، لكنها آثرت العودة إلى ذاكرة قبلية مغلقة، لا تختلف عن منطق الوعي الشائع لدى الفاشلين من النخب السودانية.

    إن الخطاب الأخلاقي–القبلي، مهما بدا مثيراً أو كاشفاً للجرح، لا يفعل في جوهره سوى إبقاء هذا الجرح مفتوحاً وتغذيته بالأحقاد، بينما يعجز عن تفسير البنية العميقة التي تجعل من العنف آلية دائمة لإعادة إنتاج السلطة المركزية. هذا النمط من التفكير هو ما وصفه عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون في مبحثه "سيكولوجية الجماهير" حين أشار إلى أن العقل الجمعي ينحدر غالباً إلى مستوى أبسط أفراده، فيصبح عرضة للانفعال والاختزال، بعيداً عن التحليل النقدي والعقلاني. وهنادي فضل، وهي قيادية في حزب كان يُفترض أن يستمر بمساهمته في رفع الوعي لأجيال من السودانيين، تنزلق بهذا الخطاب إلى مستوى ذلك العقل الجمعي المنفعل، بدل أن تحافظ على التمايز الفكري الذي يقتضيه موقعها.
    الماركسية، التي تزعم الأستاذة هنادي الانتماء إليها، تُعلّم أن المادية الجدلية وحدها قادرة على كشف البنية: فهي تُظهر كيف يتحوّل الصراع الاجتماعي/الطبقي إلى حروب أهلية متجددة، بينما يبقى جوهر المسألة دائماً في علاقات الاستغلال والهيمنة الطبقية/الامتيازات التاريخية. أما الخطاب القبلي–الأخلاقي، فهو لا يفسّر شيئاً، بل ينحدر إلى مستوى خطابات عنصرية متخلفة، كالتي يروّج لها عبد الرحمن عمسيب وأمثاله من المهووسين عنصريا والجهلاء الذين ملأت كتاباتهم الأسافير السودانية.
    إن فشل الأستاذة هنادي في قراءة هذا التناقض هو سقوط في أخلاقوية مبتذلة لا تليق بعضوة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني او لاي حزب اخر. وإن لم تستطع أن ترى في هذا التناقض سوى "جرح قبلي"، فإن من الأجدى لها أن تراجع موقعها علي ضوء مشروع العدالة التاريخية الذي تبنّته اليوم حكومة "تأسيس" عبر ميثاقها المبذول، وهو مشروع يتجاوز الأفق الضيق لعدالة الانتقام إلى بناء سودان جديد: علماني، ديمقراطي، ولا مركزي، قائم على مبادئ العدالة التاريخية ومعالجة جذور القهر الاجتماعي والسياسي.
    أما من زاوية التحليل النفسي، فقد نبّه فرويد إلى أن الجماعات حين تعجز عن مواجهة تناقضاتها البنيوية، تميل إلى استدعاء الماضي كآلية دفاعية تُسقِط قلق الحاضر على ذاكرة قديمة، وهذا للأسف شان الكثير النخب في السودان. وذهب إريك فروم في "الخوف من الحرية" إلى أن الهروب من مواجهة الواقع يدفع الأفراد والجماعات إلى التشبث بهويات مغلقة – قبيلة، طائفة، أسرة – لأنها تمنح شعوراً زائفاً بالأمان، وإن كان ذلك الأمان على حساب الحقيقة. بهذا المعنى، خطاب هنادي الفضل لا يواجه الواقع الطبقي- السياسي الراهن، بل يعيد إنتاج "ذاكرة الدم" كدرع نفسي يُخفي جوهر الأزمة: علاقات الاستغلال والهيمنة.

    ٣/ سلوك لينين: منطق الثورة ضد منطق الثأر:
    لو أخذنا بمنطق الأستاذة هنادي فضل القائم على الثأر التاريخي، لكان علينا اليوم أن نحاكم "التعايشة" كجماعة اجتماعية على ما ارتكبه أسلافهم قبل أكثر من قرن كما تدعي. هذا المنطق، بطبيعته، لا يقود إلا إلى إعادة إنتاج حروب أهلية بلا نهاية، حيث تنتقل المسؤولية عبر الدم لا عبر البنية، وتُحوَّل الأنساب إلى سجون أبدية للذنب.
    لكن لينين، في ثورة أكتوبر، واجه سؤالاً أشد تعقيداً: كيف نتعامل مع جرائم القياصرة والنبلاء الذين مارسوا قروناً من الاستغلال والقمع؟ هل تكون الثورة انتقاماً شاملاً من كل أبناء تلك الطبقات، أم مشروعاً لتأسيس دولة جديدة على أسس مختلفة؟
كانت إجابته حاسمة وجاءت علي هذا النحو:
    "لا نبحث عن أصل النبلاء، بل عن موقعهم في الإنتاج."
    بهذا المعيار، لم يُحاسب لينين أبناء النبلاء على جرائم آبائهم، بل ميّز بين من قطعوا صلتهم بالطبقة القديمة وانخرطوا في مشروع الثورة، وبين من ظلوا أوفياء لعلاقات الاستغلال ودافعوا عنها. الموقف السياسي- الطبقي، لا الأصل الاجتماعي أو الأسري، كان معيار الانتماء إلى الثورة – وهذا من التجربة الماركسية!
    ومن هنا يتضح الدرس الجوهري: الثورة في السودان لا يجب ان تُقاس بالأصول القبلية أو بنسب الأجداد يا أستاذة هنادي فضل، بل بالموقف الراهن من العدالة التاريخية، الديمقراطية، والحرب الدائرة، بينما ما تطرحه هنادي، ضمناً، هو أن "التعايشة" يحملون وزر الماضي؛ بينما منطق لينين الثوري، وهو منطق الماركسية الثورية، يقول إن المعيار الوحيد الصالح هو الموقف من الثورة والتحرر. وهذا هو بالضبط ما تطرحه اليوم حكومة تأسيس في مشروعها للسودان الجديد: معيار جديد يقطع مع أوهام الدم والثأر، ويؤسس لبنية سياسية -اجتماعية تتجاوز قبور الأسلاف إلى آفاق المستقبل... وهنادي وحزبها مكانك سر للاسف!

    ٤/ روزا لوكسمبورغ: ضد القومية الضيقة:
    روزا لوكسمبورغ، التي عاشت أهوال المذابح القومية والحروب الإمبريالية في أوروبا مطلع القرن العشرين، كانت من أشدّ من حذّروا من اختزال النضال الطبقي في صراعات قومية ضيقة. كتبت تقول مايعني:
    "القومية ليست سوى قناع يخفي الصراع الطبقي. إن العمال الذين يقتتلون باسم الأمة، إنما يخدمون أسيادهم الطبقيين."
    هذا المبدأ يكشف لنا مأزق خطاب هنادي فضل بوضوح لا لبس فيه: فخطابها لا يخدم قضايا العدالة أو الثورة، بل يكرّس أيديولوجيا الدولة المركزية السودانية التي تقوم على تقسيم الهويات إلى "ضحايا دائمين" و"جلادين دائمين". والنتيجة هي تشتيت الصراع الحقيقي: الصراع الاجتماعي /الطبقي ضد الدولة العسكرية - الإقطاعية التي لا تزال تتحكم بمصير البلاد.
    روزا لوكسمبورغ أوضحت أن ربط النضال بالانتقام الإثني لا يُضعف وحدة الطبقة العاملة فحسب، بل يُحوّل وجهة النضال بعيداً عن قضاياه الجوهرية. وهذا ينطبق تماماً على السودان اليوم: فحين يُستبدل الصراع ضد الدولة المركزية وأجهزتها القمعية بمعركة وهمية ضد "التعايشة"، يصبح الخطاب رجعياً لا ثورياً. فالتعايشي في الواقع الراهن قد يكون عاملاً معدماً، لاجئاً مشرداً، أو ضحية مثل غيره من أبناء السودان، بينما يبقى المستفيد الحقيقي هو الطغمة الحاكمة في بورتسودان.
    وهنا يبرز السؤال: أين تقف هنادي– الشيوعية السودانية – من تراث روزا لوكسمبورغ؟
    بينما دعت روزا إلى توسيع أفق النضال ليطال البنية الطبقية والاقتصادية التي تنتج الاستغلال منذ عقود، ينكفئ خطاب هنادي إلى منطق الدم والثأر القبلي، متخلياً عن جوهر الماركسية التي من المفترض ان تكون مهتدية بها!

    ٥/ ماركس والعدالة التاريخية:
    ماركس بدوره رفض اختزال التاريخ في ساحة لتصفية الحسابات والانتقامات المتوارثة. ففي "الثامن عشر من برومير" كتب مايعني:
    "يصنع البشر تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم، بل تحت ظروف محددة ووراثة من الماضي"
    هذا القول يلخّص جوهر المادية التاريخية: مسؤوليتنا ليست في إدانة الأجداد أو تمجيدهم، بل في تفكيك الظروف المادية التي أنتجت القهر، والعمل على بناء ظروف جديدة تمنع تكراره، وهذا مايعد اليوم من البديهيات!
    وعليه، فإن تحميل "التعايشة" أو "المهدية" وزر جرائم الحاضر هكذا، وبسطحية لا يعدو أن يكون سقوطاً في أخلاقوية ما قبل ماركسية، تحوّل التاريخ إلى محكمة دم أبدية، بينما يظل الاستغلال الطبقي قائماً بلا مساس. فماركس وغيره يذكّرنا أن البشر يُولدون أحراراً من جرائم أسلافهم، وأن الذنب ليس موروثاً بيولوجياً بل نتاجاً لبنى مادية قابلة للتغيير.
    من هنا، العدالة التاريخية – في معناها الماركسي – لا تعني تجريم و الثأر من أحفاد "الجناة المفترضين"، بل إعادة صياغة الشروط الاجتماعية والمادية والسياسية التي جعلت من القبيلة والدين أدوات للهيمنة. هي عدالة تُعيد إنتاج المستقبل على أسس تمنع الاستغلال وتكسر دوائر التبعية والعنف...راجعي ميثاق تحالف تأسيس وكتابنا "من الجرح للتاسيس"!
    أما الذين يصرّون اليوم من بعض قيادات الحزب الشيوعي السوداني، ومن يدور في فلكهم من منظمات مجتمع مدني أو جماعات نسوية مشوشة، على إعادة تدوير خطابات الدم والانتقام، فهم يقفون في مواجهة جوهر الماركسية ذاتها. إنهم لا يقدّمون مشروعاً للتغيير الجذري كما يدعوا، بل يكرّرون وعي النخب القديمة، ويحوّلون الماركسية إلى مجرد شعار بلا مضمون.

    ٦/ نحو قراءة ثورية بديلة:
    تكمن مأساة النخب السودانية وأحزابها في أن حرب 15 أبريل قد زلزلت قدرتها على التفكير المتماسك، لأنها لأول مرة مست حياتها المباشرة. فطوال العقود الماضية، ظل كثير من قياداتها المتعلمة يتعامل مع الحروب وكأنها شأن "بعيد"، تدور في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق، بينما بقيت الطبقات التي ينتمون إليها محمية نسبياً من أهوالها. كانوا يعرفون – ولو على نحو نظري – أن الجيش هو الذي يقود هذه الحروب، ويصنع المليشيات، ويعيد تدوير العنف للحفاظ على امتيازاتهم، لكنهم استمروا في النظر إليه كـ"جيش وطني" مجرد، مادام ومليشياته بعيد عن مساكنهم ومدنهم.
    غير أن الحرب الأخيرة، حين انفجر الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع – وهما في الجوهر نتاج لبنية واحدة – دفعت هذه النخب لتذوق بعضاً مما عاناه الهامش لعقود طويلة. لكن الفارق أن الهامش، الذي اختبر مئات المرات أسوأ مما شهدته الخرطوم أو مدني أو سنار، قد بدأ بالفعل في تجاوز مراراته، والانخراط في مشروع سياسي جديد. ولعل انضمام قوات الدعم السريع إلى ميثاق وتحالف "تأسيس"، وإقرارها بمبدأ العدالة التاريخية بما يشمله من محاسبة، يكشف عن إمكان تحول الألم إلى وعي سياسي تاسيسي، وهو ماجعل النخب تفقد عقلها. أما الأستاذة هنادي فضل، فقد لجأت – كما صرّحت بقولها "إلى الجحيم "الجنجويد" وكل من يؤيدهم" – لجات إلى خطاب لا يرى الدعم السريع باعتباره نتاجاً لبنية سلطوية - طبقية، بل كإثنية ينبغي محوها. وهنا تكمن الخطورة: تحويل الصراع من مستوى البنية إلى مستوى الدم، أي من تحليل سياسي إلى ثأر قبلي- ومن شيوعية كمان!
    من هنا، تصبح الحاجة ماسة إلى قراءة ثورية بديلة، قوامها:
    - بدلاً من ذاكرة الدم: نحتاج إلى ذاكرة اجتماعية/ مادية تكشف كيف تحوّلت الأرض والسلطة والثروة إلى أدوات قهر، لا كيف تناوبت القبائل على القتل.
    - بدلاً من الانتقام: نحتاج إلى مشروع سياسي يربط النضال ضد المليشيات التي يصنعها الجيش اليوم بالنضال ضد الجيش ذاته – راس الحية، والنخب الطفيلية في المركز، لا بمآسي القرن التاسع عشر.
    - من عار القبيلة: يجب أن نتحدث عن عار الطبقة الحاكمة التي ما زالت تحتكر الأرض والموارد وتعيد إنتاج العنف، وتورّط الشعب كله في حروب لا نهاية لها.
    بهذا المعنى، فإن ما تطرحه الأستاذة هنادي الفضل لا يمثل وعياً ثورياً، بل هو سقوط في الوعي الزائف الذي يُغيب جوهر الصراع بين المركز والهامش، وبين الطبقات المهيمنة والمستغَلة، ليعيد إنتاج خطاب النخب المأزومة. وهذه النخب لم تستوعب بعد أن ما أصابها اليوم، قد عاشه الهامش بالأمس مئات المرات، وأن السودان الجديد لن يُبنى إلا بتجاوز هذه الدوامة الأخلاقوية إلى مشروع تأسيسي جذري قائم على العلمانية، الديمقراطية، اللامركزية، والعدالة التاريخية.

    في الختام:
    إن خطاب الأستاذة هنادي فضل، القيادية في الحزب الشيوعي السوداني، لا ينهض إلى مستوى الأفكار التي تدّعي الانتماء إليها حتي. فبدلاً من أن تستند إلى الماركسية كمنهج نقدي جدلي يفسّر التاريخ عبر تناقضاته المادية، تعود بوعيها إلى أولى التكوينات الإنسانية، حيث يُختزل التاريخ في الثأر الدموي والانتقام القبلي. إنها، عملياً، تنقض حتى الالتزام المتواضع بأبجديات الماركسية التي تزعم حملها.
    من المهم ان تدرك الأستاذة هنادي القيادية في الحزب الشيوعي السوداني إن السودان الجديد قد تجاوز مثل هذه الهفوات والتهافتات. فـ حكومة "تأسيس" اليوم أعلنت مشروعاً واضحاً يقوم على العلمانية، الديمقراطية، اللامركزية، والعدالة التاريخية. وهذه العدالة، من بداهاتها معالجة مساوئ التاريخ جذرياً، لا عبر استدعاء الجراح القبلية وإدامتها، بل عبر بناء شروط اجتماعية وسياسية جديدة تكسر دوائر الاستغلال.
    خطاب هنادي فضل، مهما كانت جذوره في تجربة تاريخية عائلية، لا يعدو أن يكون سقوطاً في فخ الأخلاقوية القَبَلية التي تحجب حقيقة الصراع ماركسيا: صراع الطبقات والشعوب ضد الدولة المركزية وأجهزتها العسكرية. الماركسية التي طوّرها ماركس ولينين الي وروزا لوكسمبورغ وغيرهم دعت إلى تحويل الألم إلى وعي ثوري، لا إلى ذاكرة انتقامية عمياء.
    والثورة السودانية، في تجسيدها الجديد، لم تقم لتصفي حسابات الأسلاف، بل لتبني دولة علمانية - ديمقراطية على أسس العدالة التاريخية. أما استدعاء "الجرح القبلي"، كما تفعل هنادي الفضل، فهو لا يعني سوى الهدم الأبدي، وهو بالضبط ما تجاوزناه اليوم في مشروع من الجرح إلى التأسيس.
    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de