أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء الثالث) كتبه د. الهادي عبدالله

الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-19-2025, 00:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-02-2025, 11:37 PM

د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
<aد. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
تاريخ التسجيل: 09-05-2017
مجموع المشاركات: 80

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء الثالث) كتبه د. الهادي عبدالله

    11:37 PM September, 02 2025

    سودانيز اون لاين
    د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK
    مكتبتى
    رابط مختصر





    أم سعونة ليست أرضاً فحسب، بل روح تتنفس في كل نسمة، ولوحة أبدية تتناثر فيها ألوان الضوء والظل كإشارات سرية إلى معنى الحياة. وجوه الآباء والأمهات، بتجاعيدها المضيئة وابتساماتها الصافية، تحكي قصص الصبر والحب والرضا، كأنها فصول كتاب لا ينتهي. مع كل فجر، تنبثق الأصوات. عصافير تعلن ميلاد النهار، ضحكات أطفال، وهمسات الناس التي تضفي دفئاً يعمّق صلابة الروابط. وحين يحل الليل، تتحول الساحات إلى مسارح تنبض بالضحك والأغاني، وتتداخل الزغاريد مع التصفيق كأن الأرواح وحدها من يرقص. هناك، تصبح المدرسة بيتاً، والبيت مسرحاً، والشارع امتداداً لأغنية واحدة تترددها الأجيال جيلاً بعد جيل. الحياة هنا ليست مجرد أيام تعبر، بل معنى يترسخ في الجماعة، وتجربة تُحفر في الذاكرة لتصير هوية وانتماء.

    لم تكن التربية لتكتمل لولا أمهاتنا، أولئك اللواتي حملن سرّ البذرة الأولى في الصدور قبل أن تنبت في الحقول. فالوالدة مريم محمد الأمين لم تكن مجرد أمّ، بل كانت حديقةً من الحنان، تغرس فينا بذور المحبة كما لو أنها تسقي الأرض بندى الفجر، وتعلّمنا أن الحياة لا تزهر إلا حين تمتزج الرحمة بالجدّ، والعطاء بالصبر. في خطواتها البسيطة كان يختبئ درس عميق، وفي دعائها كانت تنهض فينا قلوبٌ أكثر قوة من الحجر، وألين من نسيم الغروب وزرقة بت ملكبثّت في القلوب حناناً يشبه ظلّ النيم، فيما علّمتنا نخيلة حماد الصبر الطويل كأفقٍ لا ينتهي. وعلى خطاهنّ، جاءت أمونة عزالدين والخالة أم النور ومريم عزالدين، ثم خديجة حامد، وكلّهن مدارس صامتة لا تُكتب في السجلات، لكن أثرهنّ باقٍ في الذاكرة كأثر المطر على الطين.

    في ذلك الزمن، حين كانت القرية تخفق بالحياة كما تخفق الأرض تحت رزاز المطر، كانت الوجوه تنبثق من الذاكرة كنجوم لا يخبو بريقها. ود دولو، مصطفى حامد، إسماعيل آدم ضياء الدين، التاج سليمان دحيش، وآدم أبكر حماد وصندل ابكر، وعبدالله سبيل وأخوه ابكورة، رجال من لحم وذاكرة، ما زالت صورهم محفورة في وجدان القرية. لم تكن الحياة أياماً تتكرر بجمود، بل لحظات تتفجّر بالحيوية، كأنها مسرح مكشوف على السماء، تُكتب على ترابه ملاحم الصغار. في تلك القرية، علمنا الأستاذ علي سليمان أن التعليم لم يكن كتاباً مغلقاً ولا صفوفاً ضيقة، بل تجربة حياة متكاملة تزرع في النفوس فرحاً ومعنى. وفي الإجازات، تتحوّل القرية إلى كرنفال مفتوح. معارض، مدن ملاهي، مسابقات تراثية، ورحلات إلى القرى المجاورة، كأنها جسور تعيد إلى الذاكرة معنى الحياة. كانت الساحات تتحوّل إلى مسارح حيّة، تعرض براعة الطلاب وإبداعهم، فتذوب الضحكات في الزغاريد، وتتماهى الحكايات مع الألعاب. وفي قلب المشهد، يمشي عمنا ابوجود، يحمل الحكمة في صوته وهيبته في خطواته، بينما يظل تبن عبدالمولى وعمنا فضل جمعة وعبدالقادر الدقل رموزاً للتبجيل والوقار، حتى غدت المدرسة قلب القرية النابض، وذاكرتها الجامعة، ومرآتها الصافية التي تعكس زمناً ما زال، رغم البعاد، ماثلاً بصفائه.

    أما في الضفة الأخرى من الحكاية، كانت حواء أم جدو وخديجة أم بدوي يخططن بملامحهنّ معنى العطاء الصامت، كأن صبرهنّ تراتيل خفيّة تحفظ توازن القرية. ومدّت فاطنة سراج ونعمة حسن الطاي خيوط الحكمة من أياديهنّ، كما تُمدّ شِباك النيل لالتقاط رزق الغد. وهناك مستورة قراد وأم جقر، ومعهنّ بنات الدقيل البلة وأم جفر وفطيمة الحاج ومريم آدم بخيت، ينثرن بذور الودّ في الدروب كما تُنثر حبوب الدرت على وجه الأرض لتعود خضرة وبهجة. ولم تغب عن المشهد سعدية وحليمة السنوسي، وخديجة الجاك وأم طراي، وحواء عيد، كنّ جميعاً كحدائق خضراء تطوّق القرية بأغصان المحبة. ويربّين الأجيال كما يُربّى الغرس في حضن الطين، محميّاً بظل المطر وأمل الفصول القادمة.

    في مباريات كرة القدم، كانت الطالبات يصطففن حول الملعب الترابي بثيابهن البيضاء، كأعمدة خفية تسند ذاكرة المكان وروحه. لم يكن حضورهن مجرد انتظار، بل دهشة وفخر يختلطان بنداء القلب، وهمسات تتحول إلى موسيقى من الدعوات، حتى ليخيَّل للناظر أن الكرة لا تتحرك إلا بدفع يقينهن، وأن الملعب كله ينبض بأنفاسهن. ومع كل زغرودة، كان الهتاف الجماعي يتردد عبر الحقول والبيوت، وكأن أم سعونة بأسرها تهتف (دائماً يا أم سعونة بلد منصور، حاشاكِ ما مقهور). خطّت القرية تاريخها كصفحات كتاب حي، في مواجهة كل من حسكنيتة، العزبان، وانقابو، وفي ذلك اليوم الذي ستظل أم سعونة تتذكره، انطلقت صافرة البداية معلنة ملحمة كروية بين الطويشة وأم سعونة. تحرك خط الوسط كالشريان النابض بالحياة، واللاعبون كعازفي أوركسترا خفية، كل لمسة نغمة، وكل تمريرة وتر يضيء الفضاء، وأقدامهم تكتب موسيقى الانتصار على تراب يعرف أسماءهم. وعندما اصطدمت الكرة بالشباك، لم تعد مجرد كرة، بل صدى يذوب في نبض القلوب، صفحة جديدة تُسطر في كتاب القرية الذي لا يموت. وانتهت الملحمة بفوزٍ كبيرٍ مستحق، فاهتزّت السماء كأنها تصفق ابتهاجاً، ورقصت الريح مردّدة الأهازيج في فضاء مفتوح، بينما تحوّل الملعب إلى قلبٍ نابض بالفرح، ينبض مع كل هتاف ويضيء مع كل ابتسامة، لم يكن الانتصار مجرد رقم على لوحة النتائج، بل نصراً للأرض التي أنجبت أبنائها، وللأمهات اللواتي سقينهم بالحب والصلابة، ولذاكرة جماعية تعلمت كيف تصنع من كرة القدم معنى للحياة وخلوداً للانتماء.

    ولم تكن البطولة حكراً على اللاعبين وحدهم، فالأمهات كن الوجه الخفي للمجد، صانعات الصلابة والحماية بالعطاء. حضورهن لم يكن مرئياً دائماً، لكنه ينبض في كل هتاف، في كل كرة تتجه نحو الشباك، وفي كل لحظة تتحول المباراة إلى ملحمة، والهتاف إلى قصيدة، والقرية إلى وطن صغير يتسع للأحلام. بعضهن غبن بأجسادهن، لكن بصماتهن بقيت محفورة على تراب أم سعونة: فاطنة بتول، والأستاذة عواطف محمدو، الأستاذة مدينة آدم، مريم هارون وحليمة الجاك، زينب بت الفكي، الأستاذة زهراء عباس وحليمة احمد محمد، وغيرهن كثيرات غاب عنهن السطر، لكن لم يغِب أثرهن. إنهن المصابيح الخفية التي لم تنطفئ، علّمن أن البطولة ليست مجرد أرقام تُكتب على اللوحات، بل حياة تُصنع بالحب، وتُخلّد بالعطاء، وتورّث للأجيال كأنشودة لا تنتهي.

    ونسأل الله أن يرحم من رحلوا إلى الدار الآخرة، فقد ترك كلٌّ منهم قصة وبصمة تُضيء الذاكرة، وإرثاً من الحب والوفاء يسكن في كل زاوية وحجر وشجرة وحيوان. كما نسأله أن يمد في أعمار من بقوا بيننا، وهم يحملون روح القرية ويغرسون الخير والمودة في الأجيال. وهكذا، تبقى أم سعونة أكبر من مجرد أرض وبيوت، فهي وطن صغير يعلّمنا أن الحياة لا تُقاس بالأعمار بل بالبصمات، ولا بالسنوات بل بالمعاني التي نتركها خلفنا. إنها درس مفتوح في معنى الوفاء، وذاكرة حيّة تذكّرنا بأن الانتماء لا يُختزل في الحضور الجسدي، بل يتجذر في الوجدان، ليظل يضيء الطريق مهما تعاقبت الفصول أو ابتعدت المسافات.
    [email protected]


    Sent from Outlook for iOS























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de