هل تكفي أطراف أصابع قائد الدعم السريع على سطح مصحف، لتقيم ميزان الديموقراطية والعدالة؟ وهل المصحف حجاب من المحاسبة عن جرائمهم في حق الوطن؟ أن قسم حميدتي، الذي كان يشتهي رتبة لواء، صار اليوم رئيسًا بفعل إخفاقات الحركة الإسلامية التي جعلت الجيش رهينة لتنظيمها، حتى خرج عن نظم المؤسسة العسكرية، وشرع في تشكيل ميليشيات موازية لحماية الإسلاميين. لقد نجح الكيزان حقًا في جعل السودان مثل (الدلقان المهرود)، لا يمسك من أي طرف. شعب جزِع، تتقاذفه حكومتان كسيحتان بلا سوق أخلاقي تستندان عليه، تتسابق في مطاعنات عبثية من نوع عندنا حكومة (أمل) مجدها البندقية، وعندنا حكومة (علمانية) كدمول على ظهر دبابة! موارد مهدرة، والدم المراق سوداني. والناجي منهم فاقد لأبسط مقومات الحياة في الأمن، الغذاء، والصحة. لاجئ داخل حدوده، مشرد في المنافي، تتهدده حرب طويلة بين سلطتين هشّتين، لا نصير لهما في الإقليم أو المجتمع الدولي. كقول شاعرنا حميد (خلق الله عاد تكشّ حين ترد سيرة الجنوب) وكذا الحال اليوم حين ذكر دارفور. رحلنا عن مدينة سكنتنا أكثر مما سكناها، إلى مدينة جديدة، والدنيا صيف، كأنها جنة الله على الأرض. لبينا دعوة كريمة من بعض السودانيين المقيمين هناك، في حديقة عامة، لكن القلب في ذلك اليوم، السبت التاسع من يوليو 2011، كان مفطورًا… فقد كان يوم إعلان انفصال الجنوب عن السودان، يوم فصل فيه الكيزان وطنًا عن جسده. كانوا يحتفلون، وكان شواؤهم من لحم ثورٍ أسود، ذبحه للسخرية صاحب (منبر السلام العادل) جلسنا والوجع يغلف الأرواح. كنا نعيش على أملٍ الرجعي لوطنٍ يسع الجميع، ينعم أهله بالمواطنة المتساوية، ويشهد عدالة تحاسب الذين بسبب اختلافات فكرية من داخل الدين، كفرونا وأهدروا دمائنا باسم الدين، وأرهبونا بذات الذريعة. فملاحقة المدنيين اليوم بالقحاطة! صنعة يجيدها الكيزان من قديم! وهكذا قد قضينا أعمارنا في المنافي، منبتين من جذورنا، بلا يقينٍ عن عودة. وها هو الصمت في الاسافير ووسائل التواصل عن حال انسان دارفور في هذا اليوم الفاصل، يعيد مشهد ذلك الصمت القديم في تلك الاحتفالية، رغم صخبها، خلت تماماً من ذكر ذلك الحدث المهيب. لم تذكر سيرة إنسان الجنوب، الذي اختار الرحيل على أن يسقى كؤوس الذل. الطعنة كانت حادة، وطازجة. ذكّرتنا باليتم، وابتسامة الشهيد. فاستأذنا، كمن تربّى فكرياً وليس طائفياً علي تحمل تبعات كلمة الحق، أن تتغنى بناتنا بكلمة الشهيد الأستاذ محمود محمد طه (أنا أعلنت رأيي مرارًا في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت الناس عنه. وقد وضعت واستغلت لإرهاب الشعب، وسوقه إلى الاستكانة عبر إذلاله، وهددت وحدة البلاد) لم نعبأ إن أثقلنا على الجمع، فالسياسة وجع وطن يأبى التسكين، والبوح هو انتزاع فرص الوعي، ولو كان باهظ التكلفة النفسية. ناولني زوجي منشور (هذا أو الطوفان)! وقد جد في طباعته وتوزيع نسخ منه حين كانت وسائط التواصل الاجتماعي في رحم الغيب التكنولوجي، ورد في بعضه (أن هذه القوانين قد هدّدت وحدة البلاد، وقسمت هذا الشعب في الشمال والجنوب، بما أثارته من حساسيات دينية كانت من العوامل الأساسية لتفاقم المشكلة... أما المواطن اليوم، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة، وإنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة، على قدم المساواة) نعم، فكما أن حل مشكلة الجنوب يكمن في حل مشكلة الشمال، فإن حل أزمة الغرب لن يأتي إلا بحل جذري لأزمة المركز، أذ كلهم ضحايا التهميش، غياب العدالة والحقوق المتساوية. وليس الانقسام والانفصال مجدداً هنا وحده الخطر، بل السلام الزائف هو ما يمهّد له. والبلاد لم تتعافي من جراح (اتفاقية سلام جوبا) التي صار محورها شراكة قادتها مع الكيزان في الثروة والسلطة، والاقتتال في هذه الحرب بين مكوناتها، وهذا مدخر حكومة تأسيس اقتتال قبلي دامي بينهم كما حدث بعد انفصال الجنوب! كلهم آمنوا من العقاب، فتمادوا. يحلفون لا على براءة الأيدي، بل على سلامة الرقاب. خلفهم نخب صفوية كنا نظنها ستبني حكماً مدنياً حقيقياً، تحل مشاكل الناس في الإقليم تأمنهم وتقدم لهم الخدمات كما زعمت، فإذا بها تتهافت على الوزارات. ولن يحلّ مشكلة السودان حكومة علمانية مستعجلة، ولا عودة لمشروع الإسلام السياسي، ولا وصاية دولية. إنما شجاعة اعتراف شعبي بضرورة السلام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة