يمثل السودان نموذجًا معقدًا للصراعات الحديثة، حيث تتشابك عوامل الهوية العرقية، والسيطرة السياسية، والمصالح الاقتصادية الدولية. ما يُصور أحيانًا على أنه نزاع داخلي هو في جوهره تصادم بين روايتين للهوية الوطنية: رواية النخبة التي تبنّت "العروبة" كأداة للهيمنة، ورواية المجموعات الإفريقية غير العربية التي تسعى للعدالة والاعتراف الكامل بحقوقها. جذور الأزمة من "السودنة" إلى العروبة كأيديولوجيا هيمنة مشروع "السودنة" الذي أطلقته النخبة الشمالية ذات الجذور العربية، تحول تحت حكم نظام البشير إلى أداة منهجية لترسيخ الهيمنة السياسية والثقافية. لم يقتصر الأمر على السيطرة على المناصب بل امتد إلى فرض هوية عربية-إسلامية على مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، مما أدى إلى تهميش المجموعات الإفريقية في دارفور، جنوب كردفان، والنيل الأزرق. هذا التهميش، المستمر منذ الحقبة الاستعمارية، أوجد فجوة كبيرة بين المركز والأطراف، ومهد الطريق لظهور مليشيات مسلحة. مليشيات العروبة - من خطاب ثقافي إلى قوة مسلحة تجسدت أزمة الهوية في ظهور قوات الدعم السريع، المشتقة من بقايا مليشيات الجنجويد في دارفور، والتي حولت خطاب العروبة إلى أداة سلطوية مادية. هذه القوات لم تعد مجرد خطاب ثقافي، بل تحولت إلى قوة عسكرية تتحكم في الموارد والمقدرات، وتعيد إنتاج التهميش باستخدام العنف كأساس للهيمنة، مستندة إلى التحالفات القبلية والتاريخية. التدخل الدولي: العروبة كورقة نفوذ لم يقتصر الصراع على الداخل السوداني، بل أصبح ساحة للتنافس الدولي والإقليمي. دعمت دول مثل روسيا والإمارات هذه القوات، ليس فقط عسكريًا، بل كوسيلة لترسيخ نفوذها في السودان. روسيا، التي تسعى إلى قاعدة بحرية في بورتسودان، استخدمت هذه القوات لضمان ولاء النخبة العسكرية، بينما رأت الإمارات في الخطاب العرقي غطاء لمشاريعها الجيوسياسية في المنطقة. كما أن تورط دول الجوار مثل إثيوبيا، إريتريا، وكينيا أضاف بعدًا إضافيًا للتعقيد، إذ انجرّت هذه الدول نحو الصراع، رغم دورها المفترض كوسيط.
الأزمة الإنسانية الكارثة تتجاوز الحدود منذ أبريل/نيسان 2023، انخرط الجيش السوداني، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، و"قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في صراع ضار على السلطة والسيطرة على المناطق الاستراتيجية. أدى ذلك إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص، وتشريد نحو 13 مليون، مع احتياجات إنسانية طارئة لحوالي 30 مليون شخص، بينهم 3.5 مليون طفل. إضافة إلى عمليات القتل خارج نطاق القضاء، الإعدامات الجماعية، التطهير العرقي، والنهب، شهد السودان تفككًا واسعًا للسلطة وبروز جماعات مسلحة صغيرة تزيد من انعدام الاستقرار داخليًا وإقليميًا.
المقاومة وإعادة تعريف الهوية في المقابل، تتحول المجموعات المهمشة من ضحايا إلى فاعلين. لم يعد صراعهم مجرد دفاع عن البقاء، بل محاولة لإعادة تعريف الهوية السودانية ذاتها. إنهم يرفضون أن يكونوا هوامش في الدولة، ويطالبون بشراكة كاملة في صياغة العقد الاجتماعي الجديد، رافضين استمرار مشروع "العروبة" الذي يفرض أحادية ثقافية على مجتمع متعدد الأعراق. المخاطر المستقبلية بين التفكك وإعادة التأسيس اليقين الوحيد هو أن السودان يقف عند مفترق مصيري: إما الاعتراف بالتعددية وتأسيس دولة قائمة على المساواة بين جميع المكونات، أو استمرار مسار التفكك الذي قد يؤدي إلى تفكك الدولة. الحل العسكري يعيد إنتاج الأزمة بأدوات أكثر دموية، بينما الحل السياسي يتطلب الاعتراف بفشل مشروع "العروبة" والانتقال نحو هوية وطنية جامعة تحترم التنوع كمصدر قوة، لا كمصدر تهديد.
السلام لا يكون بانتصار طرف على آخر السلام الحقيقي لن يتحقق بأنتصار طرف على آخر، بل بانتصار فكرة السودان المتعدد على فكرة السودان الأحادي. وهذا يستلزم إصلاحًا سياسيًا عميقًا، عدالة اجتماعية، سياسات إنسانية، واستراتيجية متكاملة للتعامل مع النفوذ الدولي والإقليمي بطريقة تحافظ على وحدة الدولة، وتحمي المدنيين من الانتهاكات، وتؤسس لهوية وطنية جامعة تقوم على التعددية والعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة