عرفت اللغة العربية بثرائها البلاغي وقدرتها على حمل أكثر من معنى في تعبير واحد. فكم من عبارة تحمل في ظاهرها معنى قريباً، لكنها تخفي في أعماقها معنى أبعد وأعمق. من الأمثلة الشهيرة قول العرب: «فلان طويل الباع»، فقد يُفهم مباشرة بمعناه القريب أي طول الذراع، لكنه في معناه البعيد يرمز إلى سعة الحيلة وامتداد النفوذ. ومن هذا الباب يمكن أن نفهم عنوان هذا المقال: «هل يطول صمت الأعيسر؟». فالمعنى القريب يشير إلى استمرار قرار حجب مهمة الناطق الرسمي باسم الحكومة عن وزير الإعلام، أما المعنى البعيد هو: إلى أي حد سيظل الأعيسر صامتاً أو متوافقاً مع هذا الوضع غير المسبوق.
الأعيسر، الذي عرف عنه منذ بواكير مسيرته الإعلامية صراحته ووضوحه ومباشرته في التعبير عما يؤمن به، لم يكن يوماً من أنصاف الأصوات أو الرموز الرمادية. لقد ميّزه هذا الخطاب المختلف، فخطف الأضواء سريعاً وتسابقت نحوه أجهزة الإعلام الدولية، ترى فيه صوتاً سودانياً صريحاً يعكس صورة حقيقية عن البلاد، لا مجرد صدى باهت للخطاب الرسمي. من هنا كان اختياره وزيراً للإعلام في حكومة الأمل التي يرأسها الدكتور كامل إدريس أمراً منطقياً وطبيعياً، بل ومطلباً ضرورياً في ظرف بالغ التعقيد.
لكن المفارقة المدهشة أن يُعطّل الأعيسر عن مهمته الأساسية: التعبير عن الحكومة. فإذا كان وزير الإعلام لا يُسمح له بالحديث باسم الحكومة، فمن عساه يقوم بهذا الدور؟ وكيف يُتصوَّر أن تُحرم حكومة تشكّلت في ظرف استثنائي من أبرز أدواتها، أي الإعلام الرسمي والسياسي الذي يُفترض أن يقدّم سياساتها للرأي العام ويدافع عنها في المحافل الداخلية والخارجية؟
إن حكومة بلا جهة تعبّر عنها إعلامياً وسياسياً أشبه ببطة عرجاء. فهي تفقد التوازن منذ اللحظة الأولى، وتصبح عاجزة عن الحركة في مشهد سياسي مضطرب، داخلياً وخارجياً. والأسوأ أن هذا الغياب يفتح الباب واسعاً أمام الأصوات المضادة، تلك التي تتربص بالحكومة وتعمل على تقويضها عبر بث خطابها الخاص دون أن تجد من يرد عليها بلسان رسمي قوي ومقنع.
إن الوضع الشاذ القائم اليوم لا يهدد شخص الوزير فحسب، بل يهدد الحكومة كلها. فغياب الناطق الرسمي يعني غياب الصوت الموحد، وغياب الصوت الموحد يعني تشتت الرسائل، وتشتت الرسائل يعني ضياع الثقة بين الحكومة والجمهور.
ونحن كصحفيين إنما نضغط في هذا الاتجاه لعلمنا بحجم الخسارة التي تترتب على غياب صوت الحكومة، وليس بدافع أي أمر شخصي. ولم يكن ضغطنا يوماً في شأن عسكري، فذلك مجال له فرسانه وقد أبلوا فيه بلاءً حسناً، وإنما معركتنا الحقيقية هي معركة الكلمة والإعلام، حيث لا غنى للحكومة عن صوتها الرسمي.
والشعب، الذي هو صاحب المصلحة الأولى في نجاح هذه الحكومة، لا يمكن أن يبقى متفرجاً على فشلها في مخاطبته أو شرح سياساتها له.
جاءت حكومة الأمل في ظل حرب وجودية على الدولة السودانية بكل مقوماتها، وأولها الشعب نفسه. حرب عسكرية وأمنية واقتصادية، وضعت البلاد أمام تحديات جسام، لا تصلح معها حلول تقليدية ولا تُجدي معها حكومات بيروقراطية بطيئة. كان المطلوب – وما يزال – حكومة بمواصفات استثنائية، تملك الشجاعة والوضوح والقدرة على مخاطبة الناس بلغة عقلهم وعاطفتهم معاً. وإعلام الحكومة، بطبيعة الحال، يجب أن يكون أكثر استثنائية، وأن يقوده وزير ديناميكي مؤمن بمشروعها، لا وزير يضرب عليه بسياج عنيد من الصمت البهيم المطبق.
هنا تبرز المفارقة الكبرى: فبينما تحتاج البلاد إلى وزير إعلام يتحرك بحرية ويقود معركة الوعي بجرأة، يجد الأعيسر نفسه مقيداً بقرار يحجبه عن مهمته الأولى. وبينما يتطلع الناس إلى سماع صوت الحكومة واضحاً ومباشراً في زمن الغبار السياسي والعسكري، يكتشفون أن الوزير، وهو الصوت الطبيعي، قد صمت مرغماً.
لكن السؤال الأهم: هل يطول صمت الأعيسر؟ وهل يقبل أن يبقى شاهداً على إقصاء دوره، وهو الذي اعتاد مواجهة التحديات بالتصريح لا بالصمت؟ إن التجربة الماضية تقول إن الرجل لم يكن يوماً من دعاة المداراة السياسية، بل كان صوته سبباً في بروز اسمه وصعوده. ولذلك فإن استمرار هذا الصمت يبدو أمراً غير منسجم مع شخصيته ولا مع حاجات المرحلة.
إن الأزمة في جوهرها ليست أزمة وزير إعلام فقط، بل أزمة رؤية في كيفية إدارة الدولة لمعركة الإعلام والسياسة معاً. فإذا لم تُحل هذه المعضلة سريعاً، فإن الحكومة ستبقى أسيرة غيابها الإعلامي، حاضرة في القرارات والغرف المغلقة، لكنها غائبة في وجدان الناس. وذلك هو الخطر الأكبر.
في النهاية، يمكن القول إن السؤال المطروح لا يخص الأعيسر وحده، بل يخص مستقبل حكومة الأمل بأكملها: هل ستجد شجاعة مواجهة نفسها وتصحيح الخلل، أم أنها ستظل تسير ببطء على قدم واحدة، حتى تسقط في منتصف الطريق؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة