لم يكن التلفزيون السوداني مجرد شاشة في ركن المنزل، بل كان مرآةً عاكسة لتاريخ السودان المعاصر. رحلته من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن أداة لنشر الثقافة إلى منصة سياسية، ثم أخيراً إلى مصدر لفقدان الثقة، هي قصة تروي العلاقة المعقدة بين الإعلام، والسلطة، والشعب في بلد مرّ بالكثير من التحولات. البدايات - حلم التنمية وأداة الهيمنة عندما أطلق السودان بثه التلفزيوني في عام 1962، كان ثالث دولة أفريقية فقط تدخل هذا العالم السحري. كان الحلم المعلن هو "نشر التعليم والثقافة الوطنية"، وتحول التلفزيون بسرعة إلى حدث اجتماعي يجمع الأسر حول برامجه التعليمية والفنية. لكن هذا الحلم الوردي لم يدم طويلاً. مع سيطرة الحكم العسكري في ذلك الوقت، تحوّل التلفزيون من نافذة على العالم إلى بوق للسلطة. الأخبار كانت تستهل بزيارات المسؤولين، والمحتوى كان مُوجّهًا لتلميع صورة النظام. كانت تلك هي البذرة الأولى لتحويل الإعلام العمومي إلى "ناطق رسمي باسم الدولة" بدلاً من أن يكون صوتًا للشعب. العصر الذهبي: صناعة الهوية والرقابة الخفية دخل التلفزيون السوداني عصره الذهبي مع قدوم السبعينيات، وتحول إلى البث الملون. لم تكن هذه مجرد نقلة تقنية، بل كانت نقلة نوعية في صناعة المحتوى. برامج مثل "نور العين" و"ألحان سودانية" و"مع الناس" لم تكن مجرد برامج ترفيهية، بل كانت ساحات ثقافية افتراضية تجمع السودانيين من كل الأقاليم. لقد لعبت دوراً محورياً في بناء هوية ثقافية مشتركة.
لكن في ظل هذا الازدهار، لم يتخلَّ الإعلام عن دوره كأداة للدعاية. كانت خطابات الرئيس الطويلة تحتل المساحات الزمنية، والتغطيات الإعلامية لحرب الجنوب كانت تُصوّرها كـ"دفاع عن الوطن" متجاهلة تعقيداتها الإنسانية والسياسية. هذا المزيج من المحتوى الهوياتي والدعاية السياسية طرح سؤالاً جوهريًا: هل يمكن لإعلام أن يبني ثقافة حقيقية بينما يخدم صوتاً واحداً؟ التلفزيون في عاصفة الأيديولوجيا والثورة مع انقلاب عام 1989، وصل التلفزيون السوداني إلى محطة فارقة. لم يعد أداة للدعاية فقط، بل أصبح مشروعاً أيديولوجياً لتغيير المجتمع. تم فرض الرقابة الصارمة على المحتوى، وتم حظر الموسيقى والرقص في رسالة واضحة لتشكيل "هوية ثقافية جديدة". تحوّلت البرامج الدينية إلى أدوات لأسلمة المجتمع قسراً، خاصة في خضم الحرب الأهلية.
المرحلة الأقسى في تاريخ التلفزيون كانت خلال ثورة ديسمبر 2018. بينما كان الملايين يملأون شوارع السودان مطالبين بالحرية، تجاهلت الشاشة الرسمية هذه الأحداث تماماً، وصورت المتظاهرين على أنهم "مخربون". في هذه اللحظة، فقد التلفزيون مصداقيته تماماً في نظر الجمهور، الذي تحوّل بشكل جماعي إلى المنصات الرقمية البديلة. بعد انقلاب 2021، استكمل التلفزيون دوره كأداة للنظام، مُبرراً الانقلاب بالحديث عن "التصحيح" و"المؤامرات الخارجية". هذا الموقف الأخير كان بمثابة شهادة وفاة لعلاقته بالجمهور السوداني. الدروس المستفادة ومستقبل الإعلام رحلة التلفزيون السوداني تقدم دروساً ثمينة لكل إعلامي ومهتم بالشأن السوداني وهي الإعلام سلطة كان التلفزيون دائمًا أداة في يد السلطة، ولم يكن صوتاً للشعب إلا نادرًا. المحتوى يُخترق القيود رغم كل القيود، استطاع المبدعون السودانيون أن يقدموا محتوى فنياً وثقافياً أصيلاً أصبح جزءاً من التراث والهوية. الجمهور يبحث عن المصداقية: لقد أثبتت الثورة الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي أن الجمهور لم يعد بحاجة إلى شاشة لامعة، بل إلى مصدر موثوق للمعلومة. سقوط التلفزيون الرسمي أمام قوة الإنترنت يؤكد أن الحقيقة لا يمكن حجبها إلى الأبد. *مستقبل الإعلام السوداني لا يمكن أن يُبنى على النموذج القديم. إنه يتطلب إعلامًا مستقلاً، مبنيًا على المصداقية، وقادراً على التفاعل مع الجمهور لا توجيهه. ربما يكون الإرث الحقيقي للتلفزيون هو أنه علم السودانيين قوة الصورة، ثم دفعهم ليصبحوا هم أنفسهم مصدراً للحقيقة، ينقلونها بأصواتهم وصورهم عبر الفضاء الرقمي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة