أيها القارئ العزيز، تابع معي بصبر، هذه المهزلة السودانية القاتمة التي تدور فصولها ما بين بورتسودان والبترودولار الإماراتي وعبق الفلول الذي يلف القاهرة. لا تتعجب، فأنت أمام نموذج عبقري في سيادة تحكمها مكالمات خارجية، حيث تدعي حكومة بورتسودان أنها تخوض حرب الكرامة وتصون السيادة الوطنية، لكن حين تهزّ الإمارات بفحيحها تهديدا أو تلوّح مصر بعصا -إهدأ يا ولد، يتحول جنرالات السودان إلى تلاميذ مهذبين في صف التوجيه القاهري. كيف لحكومة تلطم على صدرها وتمتشق سيف الدفاع عن كل أزقة السودان ولو بالتغريدة أن تقبل إملاءات القاهرة صاغرة، وتُكمم فم أحد أكثر صقورها انفلاتا، فقط لأن المصلحة مع الرعاة الإماراتيين في خطر؟ الفريق ياسر العطا، ملأ الدنيا صراخا حول المؤامرة الإماراتية ودعمها للجنجويد، يلوّح باستخدام القوة ضد أبوظبي، ثم فجأة يصبح أبو ظبي هذا مسكوتا عنه، يغضب ويهدد ويتوعد، فيصدق البسطاء أنه الجنرال الذي لا يهاب، لكن فجأة تتدخل القاهرة (الأم الحنون) في اجتماع حاسم، فيُرحّل كل هذا التهديد إلى العدم، وتختفي نبرة العطا من الكون الافتراضي ومن غرف الأخبار معا. هذا عزيزي القارئ، ليس تناقضا وحسب، بل هو مهزلة الانبطاح الكبير التي لا يمكن أن تليق بحرب كرامة المزعومة، إذ ما الذي تخشاه حكومة بورتسودان إذن؟ أي شبحٍ أسود يلوح في الأفق يجعلها تتخلى عن مبادئها المعلنة، وتلقي بقائد شجاع، على الأقل في خطاباته في غياهب الصمت، فقط لإرضاء وسيط ما، وحماية متهم مفترض بشهادة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي سنغوص في أعماقه، بسخرية لاذعة، وبتحليل واسع، يكشف زيف الشعارات المرفوعة، وحقيقة الخضوع المستتر. كان صوت الفريق أول ركن ياسر العطا كزئير الأسد في فضاء السودان الموبوء، يصدح بكلمات نارية، ويلقي بتهديدات لاذعة، ويُسمّي المتهمين بوضوح لا يحتمل اللبس والغموض. لقد كان الرجل، بما لا يدع مجالا للشك، صوت السودان الغاضب الثائر، أو هكذا بدأ الأمر، فمن على الشاشات، وفي لقاءات مسجلة، لم يتوانَ الرجل عن توجيه سهام النقد مباشرة إلى القيادة الإماراتية، واصفا رئيس الدولة بصفات غير دبلوماسية، ومطلقا على الإمارات توصيفات تقلل من مكانتها في وعي المستمع السوداني، بل تعدى الأمر ذلك إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية، والتلويح بقصف مطارات إقليمية مثل أم جرس وإنجمينا، في تصعيد غير مسبوق أثار قلقا إقليميا واسعا. كان يُنظر إليه كسيف الكرامة المسلول، كالشخص الوحيد الذي يملك جرأة تسمية الأشياء بأسمائها، متحديا كل الخطوط الحمراء الدبلوماسية، ومجسدا للصمود السوداني المزعوم في وجه المؤامرات الخارجية. ولكن، وكما جرت العادة في السودان الجريح، سرعان ما تحول زئير الأسد إلى همس القطط فجأة، ومن دون سابق إنذار، اختفى صوت العطا، لا تصريحات نارية، لا تهديدات مدوية، لا شتائم علنية، بل صمتٌ مطبق، صمتٌ مدو، يشي بأن شيئا جللا قد حدث خلف الكواليس، ويا له من مشهد كوميدي، البطل القومي، الذي عُرف بلسانه السليط وشجاعته اللفظية، يتحول إلى تلميذ مطيع بضغطة زر خارجية. هل هذا هو الثمن الذي يدفعه الأبطال في هذا الزمن العجاف، وهل الكرامة باتت سلعةً تُقايض بالصمت المطبق، وبالإذعان للمطالب الخارجية، حتى لو جاءت من جهة يُشتبه في دعمها لعدو البلاد الداخلي؟ هذا التحول ليس مجرد خيبة أمل، بل هو دليلٌ قاطعٌ على أن هناك أيادي خفيةً، أو ربما ظاهرة جدا، تتحكم في أوتار السياسة السودانية، وتقرر متى يتحدث أبطالها ومتى يصمتون، وهذا بحد ذاته يُفقد هؤلاء الأبطال أي مصداقية أمام شعب ينتظر منهم الصمود لا الاستسلام لأول ضغط خارجي. المسرحية السياسية، التي لا تخلو من فصل عبثي، تستدعي مشهدا رئيسيا في العاصمة المصرية، القاهرة، إذ تقول الرواية التي نقلتها منصة دارفور24، عن مصادر مطلعة، إن القاهرة تدخلت، لإقناع العطا بوقف هجماته الإعلامية على الإمارات، يا لها من وساطة نبيلة. اجتماعٌ عُقد في مايو الماضي، جمع بين جهاز المخابرات المصري والفريق ياسر العطا، بحضور شخصيات، مثل صدام حفترة، نائب القائد العام للميليشيا التابع لقيادة خليفة حفتر. ووفقاً للمصادر ذاتها، طُلب من العطا خلال الاجتماع بلغة واضحة وصريحة أن يتوقف عن الخطاب التصعيدي ضد الإمارات. يا لها من دبلوماسية راقية، إذ السؤال هو: هل باتت مهمة الدول الإقليمية، هي الضغط على السودان لإسكات مسؤوليها عن التعبير عن مواقفهم، حتى لو كانت هذه المواقف تتعلق بوجود أجنبي يدعم عدوا داخليا يفتك ببلدهم؟ هذا ليس دور وسيط يسعى للتهدئة بين طرفين متنازعين، بل هو أشبه بدور الوصي الذي يفرض إرادته على طرف ضعيف تحت ذريعة الحفاظ على العلاقات أو تغليب الحلول الدبلوماسية. هل القاهرة فعلا، تعمل كوسيط شريف يسعى لحل الأزمة بين السودان والإمارات، أم أنها وكيل حصري لمصالح الإمارات في المنطقة؟ السخرية هنا لا تكمن فقط في تدخل مصر، بل في قبول حكومة بورتسودان بهذا التدخل، وكأن السيادة السودانية باتت معروضةً للبيع في سوق المقايضات الإقليمية، أو رهينةً لنصائح الأشقاء التي تأتي في شكل أوامر. منذ ذلك الاجتماع الحاسم في القاهرة، ساد صمتٌ مطبقٌ على لسان الفريق ياسر العطا، لا تعليق، لا تصريح، لا ظهور في أي مناسبة يتناول فيها العلاقات بين الخرطوم وأبوظبي. هذا الصمت، الذي يوصف بأنه التزام بنتائج اللقاء، ليس إلا شهادة دامغة على ضعف الدولة السودانية، وتهاوي ادعاءاتها بالسيادة والاستقلالية، إذ ماذا يعني أن يُفرض الصمت على مسؤول رفيع بهذا الحجم، فقط لأنه تجرأ على تسمية من يُشتبه في دعمهم للعدو؟ نعم، هذا الصمت ليس مجرد غياب للأصوات، بل هو غيابٌ للمبدأ، وانهيارٌ للموقف، إنه يصرخ بأعلى صوت بأن حرب الكرامة هذه ليست سوى لافتة جوفاء، تُرفع لتجميل صورة واقع مؤلم من الانبطاح والخضوع. ماذا سيقول المواطن السوداني الذي يُشاهد قادته يُكممون أفواههم بكلمة سر من عاصمة أجنبية، فيما آلاف القتلى يسقطون يوميا بنيران ميليشيا تُتهم الإمارات بتمويلها؟ هذا الصمت يُفقد الجيش السوداني جزءا كبيرا من هيبته إذا كان له هيبة أصلا، ويُشعر الشعب بالخيانة، بل ويُشجّع القوى الإقليمية على المزيد من التدخل في الشأن السوداني، طالما أن القيادة الحالية تُظهر هذا القدر من الليونة والاستعداد للتنازل عن أساسيات السيادة من أجل التهدئة التي لا تُعرف لمن تصب مصالحها، والانضباط هنا ليس داخليا، ولا نابعا من إرادة وطنية حرة، بل هو انضباطٌ يفرضه الخارج، ويُترجم إلى ذل ومهانة في عيون كل من يرى المشهد. حكومة بورتسودان، تبدو وكأنها قد تعلمت فن همس التنازل بدل صراخ الكرامة، إذ ان الخطاب الرسمي يضج بعبارات المؤامرات الخارجية والأيادي الخبيثة التي تعبث بأمن السودان، ولكن كيف يمكن لحكومة تتهم جهةً خارجيةً (الإمارات) بدعم ميليشيا الدعم السريع التي دمرت البلاد، أن ترضخ للضغوط المصرية لإسكات من يُشير بالاتهام إلى تلك الجهة؟ هذا ليس تناقضا، بل هو انفصامٌ سياسيٌ خطيرٌ بين القول والفعل، بين الشعار والتطبيق. هل القيادة العليا في السودان لم تكن راضيةً عن خطاب العطا، كما ذكر المصدر السياسي الآخر؟ هل أصبحت حماية العلاقات الدبلوماسية مع دولة تُتهم بتمويل حرب أهلية في بلادهم، أهم من كرامة شهدائهم، ودمار مدنهم، ونزوح شعبهم؟ هذا ليس تغليبا للحلول الدبلوماسية، بل هو تغليبٌ للحلول الذليلة التي تُقدم على طبق من ذهب لمن يُفترض أنهم أعداء. حرب كرامة تُقاد من غرفة استقبال في عاصمة أجنبية، حيث تُحدد فيها سياساتكم الإعلامية، وتُفرض عليكم شروطُ الصمت. يا لها من كرامة، يا له من صمود، إنهم يصرخون في العلن بأنهم أبطال، بينما هم في الخفاء بيادق تتحرك على رقعة شطرنج إقليمية، لا يملكون من أمرهم شيئا، إلا القدرة على الانبطاح والخضوع تحت وطأة التهديد أو الإغراء. هذه القيادة، ليست بصدد استعادة السيادة، بل بصدد بيعها بالتقسيط المريح لمن يدفع الثمن، أو لمن يلوّح بالعصا أولا. ما الذي تخشاه حكومة بورتسودان؟ السؤال الجوهري الذي يتردد صداه في كل زاوية من زوايا هذا المشهد العبثي هو: ما الذي تخشاه حكومة بورتسودان حقا، لتُضحي بكرامتها المعلنة، وتُكمم أفواه أبطالها، وتُسلّم قرارها لمن لا يملك حق الوصاية عليها؟ الإجابة لا تكمن في شجاعة مفترضة أو دبلوماسية حكيمة، بل في الخوف الكبير الذي ينهش عظام هذه الحكومة الهشة: 1/ الخوف الاقتصادي: السودان، المثقل بالديون والأزمات، يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخليجية والمصرية، وهي ربما تخشى قطع شريان الحياة المالي هذا، الذي لا يبدو أنه يكفي لإدارة البلاد أصلا. 2/ الخوف السياسي/الدبلوماسي: الحكومة السودانية تعيش حالةً من العزلة الدولية، وهي تستميت للحصول على أي دعم إقليمي أو دولي لشرعيتها الهشة، وبالتالي تخشى فقدان هذا الدعم الضئيل، أو المزيد من العزلة، إذا ما استمرت في إزعاج المحاور الإقليمية. لكن هل الانبطاح هو الثمن الذي تدفعه لتبقى على قيد الحياة السياسية؟ 3/ الخوف الأمني: هل هناك تهديداتٌ إماراتيةٌ مباشرةٌ أو غير مباشرة، عسكرية أو لوجستية، يمكن أن تُلحق ضررا أكبر بالجيش السوداني، ولذلك تخشى تصعيدا إماراتيا سريا، ربما بقطع إمدادات حيوية (حتى لو كانت سريةً) أو بتصعيد الدعم العسكري للدعم السريع. 4/ الخوف من الانهيار الداخلي: الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية والحكومة السودانية ليست سرا، إذ ان هناك أجنحة تفضل التهدئة بأي ثمن، حتى لو كان على حساب الكرامة والسيادة، لضمان بقائها في السلطة، مما يعني ان إسكات العطا كان جزءا من تصفية حسابات داخلية، حيث يُضحى بالشخصيات ذات الخطاب المتشدد لإرضاء حمام السلام الداخلي والخارجي. 5/ الخوف من كشف المستور: ربما هناك حقائق أكثر بشاعة خلف الكواليس لا يريدون أن تُكشف، واسكات العطا، قد يغطي على تفاصيل أكبر وأكثر حساسيةً حول حجم الدعم الإماراتي للدعم السريع، أو حول تورط أطراف أخرى في الصراع، أو حتى حول مصالح شخصية لبعض القادة في إدامة هذا الوضع المتردي. كل هذا الخوف، يبدو أنه أكبر من كرامة الوطن التي يتغنون بها، وأكبر من دماء الشعب الذي يُباد يوميا في الخرطوم ودارفور وولخ. إنه خوفٌ يجعل القيادة تتراجع عن أبسط حقوقها، وتُصبح مجرد أداة في يد الأقوى، أو الأغنى، أو الأكثر نفوذا. يا للعار، أن يصبح الخوف من خسارة الكرسي الوثير أكبر من الكرامة الحقيقية التي تُصنع على جبهات القتال، وفي قلوب من يدافعون عن وطنهم بصدق. في هذه الرقعة الشطرنجية المعقدة التي تُعرف بالمنطقة، يبدو ان السودان مجرد ورقة مساومة بين أيدي لاعبين كبار، يتقاذفونه كيفما شاءوا، ويُعيدون ترتيب أوراقه وفقا لمصالحهم المتقاطعة. مصر، الإمارات، السعودية، إثيوبيا، وحتى ليبيا.. كلٌ له أجندته، وكلٌ يرى في السودان ممرا حيويا لمصالحه، أو ساحة خلفيةً لتصفية حساباته. المشهد الحالي، حيث تُملي القاهرة على بورتسودان إسكات صوتها حول الإمارات، ليس إلا دليلا قاطعا على أن السيادة السودانية، هي مجرد وهم في ظل هذا الصراع على النفوذ، إذ ان كرة السودان تتقاذفها الأيدي الخارجية بمهارة، والقيادة السودانية تبدو عاجزة عن امتلاكها، بل يُطلب من مسؤوليها الصمت هنا، ويُطلب منهم التشدد هناك. يُضغط عليهم لوقف تصريح لمسؤول حكومي، ويُشجعون على فتح خط آخر، وحرب الكرامة هذه ليست سوى غطاء لواقع مؤلم، حيث يُستخدم السودان أداة لتغيير موازين القوى في الإقليم، ولخدمة أجندات لا علاقة لها بمصالح الشعب السوداني. السخرية هنا تبلغ أوجها عندما نرى قادة يتغنون بالاستقلال، بينما هم لا يستطيعون حتى التحكم في تصريحات أحد قادتهم حول دولة يُفترض أنها تمول عدوهم الرئيسي. هذا ليس سوى تأكيد على أن السودان، على الرغم من تضحيات شعبه الجسام، لا يزال رهينة لمفاوضات إقليمية لا ناقة له فيها ولا جمل، إلا أن يكون الضحية الكبرى. وفي خضم هذه المهزلة السياسية، يبقى الشعب السوداني هو الضحية الأكبر، شعبٌ يعاني من ويلات الحرب، يُهجر من بيوته، يُقتل أطفاله، تُدمر مدنه، ويُشاهد قادته يتراجعون عن أبسط مبادئ السيادة والكرامة، فماذا سيقول هذا الشعب عندما يرى أبطاله يُكممون أفواههم بضغط خارجي، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة تُتهم علناً بتمويل الميليشيا التي تفتك بهم؟ هل هذه هي الكرامة التي يُفترض أن يموتوا لأجلها.. هل هذا هو الصمود الذي يُفترض أن يُلهمهم للمقاومة؟ إن فقدان الثقة في القيادة، هو أحد أخطر التداعيات لهذه السياسات المترددة والخانعة، إذ كيف يمكن لشعب أن يثق في قيادة تدعي محاربة الدعم السريع والمؤامرات الخارجية، بينما تسمح لمموليه بالتحكم في خطاباتها، وتُصمت من يتجرأ على كشف الحقائق؟ هذا الانبطاح لا يكسر شوكة العدو، بل يكسر شوكة الشعب، ويُفقد المقاومة معناها، إنه يُرسل رسالة واضحةً للمواطن العادي، أن كرامته لا تساوي شيئا أمام مصالحهم الخاصة، أو أمام ضغوط من يمكن أن يدعمهم أو يُسقطهم. الشعب السوداني اليوم ليس رهينةً فقط للميليشيات المسلحة، بل هو رهينة أيضاً لصمت الأبطال وخضوع الحكام الذين يبيعون السيادة بأبخس الأثمان في أسواق الدبلوماسية الملتوية. عزيزي القارئ.. وها نحن نصل إلى نهاية هذه المسرحية العبثية، التي لم تُفلح في إخفاء التناقض الصارخ بين خطاب الكرامة وسلوك الانبطاح. حكومة بورتسودان، التي تدعي قيادة حرب الكرامة والسيادة، أظهرت ضعفا وهشاشةً قلّ نظيرهما، عندما خضعت لضغوط خارجية لإسكات صوت كان يُشير بأصابع الاتهام إلى من يُشتبه في تمويلهم لعدوهم. هذا ليس فعلا من أفعال السيادة، بل هو إعلانٌ عن التبعية، وتأكيدٌ على أن كرسي الحكم، يبدو أهم بكثير من عرش الوطن الذي يُفترض أن يدافعوا عنه. هل الكرامة باتت سلعة تباع وتشترى في أسواق الدبلوماسية الإقليمية، يُمكن التنازل عنها بضغطة زر أو بكلمة من وسيط؟ هل السيادة باتت مجرد مصطلح يُلقى على المنابر، بينما الواقع يكشف أنها مُجرد غطاء للتبعية والضعف؟ هذه الأسئلة تظل معلقة، كالسيف فوق رأس الشعب السوداني، الذي ما زال يُقاتل ويُعاني، بينما قيادته تتفاوض على صمت، وعلى ولاءات، وعلى مصالح لا تُفهم إلا في دهاليز السياسة المظلمة. إن حرب الكرامة الحقيقية، ليست معركة بالرصاص والدماء وحسب، بل هي معركة للحفاظ على الذات، على الكلمة الحرة، وعلى القرار الوطني المستقل، وحينما تُخسر هذه المعركة الأخيرة، فما الذي يتبقى من الكرامة والسيادة؟ سؤالٌ يحتاج إلى إجابة صادقة من أولئك الذين ما زالوا يصرخون بشعارات جوفاء، بينما يفعلون كل ما هو عكسها. العار كل العار لحكومة تتشدق بالكرامة ولا تقوى حتى على الإبقاء على اسطوانة تصريحات أحد صقورها دون إذن راع خارجي، والتحية للسوداني البسيط الذي يعرف أن الكرامة الحقيقية، ليست في بيان عسكري أجوف ولا هتاف كاذب، بل في قرار مستقل وشمس حرة لا تشبه عتمة الريموتات الإقليمية. وهكذا، يبدو أن أسد الشاشات، قد تحول إلى قط القاهرة المدلّل، صوتُه اختُزل من زئير مدو إلى خرخرة بالكاد تُسمع خلف أبواب الاجتماعات السرية. أما حكومة بورتسودان، فقد أثبتت أنها خبيرة في ألعاب الخفة، تُخرج بيانات الكرامة من القبّعة في العلن، ثم تُخفيها تحت الطاولة عند أول اتصال دولي، دون حتى أن تهتز شعرة من سدارة القائد أو ترتجف يد أحد على ريموت العلاقات الخارجية. عزيزي القارئ، إذا خُيِّرتَ بين سيادة تصنعها القرارات الوطنية وإملاءات تأتيك عبر الحقيبة الدبلوماسية السريعة من القاهرة أو أبوظبي، فعليك أن تسأل نفسك، هل أنت في مسرح للدمى، أم في جمهورية لها اسم وعلم؟ ويا جنرالات الخرطوم وبورتسودان: بمقدوركم اليوم تدشين أكاديمية تحت اسم، كيف تصبح بطلا في النهار وصامتا بلمسة ريموت في الليل. أما الشعب السوداني، فجائزته الرئيسية هي المزيد من البيانات الوطنية المصنعة بإشراف خارجي، مع شحنة جديدة من وعود الكرامة ذات الصلاحية المحدودة. ولا عجب في ذلك، ففي جمهورية الصراخ بالتقسيط والمبادئ القابلة للتفاوض، كل شيء قابل للتحوير، حتى الأسد يصبح قطا، بمجرد عبور الهاتف البحري من الغرب للشرق. أما أنتم يا أهل السودان المساكين المقهورين، فلكم في التاريخ عزاء، وفي الحاضر عبرة، وفي الزئير الإلكتروني، متسع للسخرية والمزيد من الصبر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة