١. المرأة في قلب اللحظة التاريخية تمرّ بلادنا اليوم بلحظةٍ فارقة، حيث انكشفت كل تناقضات الدولة القديمة وانهياراتها. وفي هذه اللحظة، لا يمكن الحديث عن مستقبل السودان الجديد دون أن تكون المرأة في قلب المعادلة. فالمرأة السودانية لم تعد ذلك الكائن الهامشي الذي يُستدعى فقط عند المناسبات أو يُستغل كواجهةٍ عاطفية في الخطابات السياسية. لقد فرضت وجودها في الشارع، في المزارع، في مخيمات النزوح، وفي لجان المقاومة. أصبحت امرأة التأسيس حقيقة حيّة تعبّر عن صلابة التجربة السودانية وعن الإصرار على أن يكون للنساء مكان في الصفوف الأمامية، ليس فقط كضحايا، بل كقائدات وصانعات قرار.
٢. الريف… حيث تبدأ المعركة جوهر التغيير في السودان ليس في المدن وحدها، بل في الريف الذي يشكل قلب الاقتصاد الوطني وروحه. هناك، في الحقول الممتدة والقرى البعيدة، نجد المرأة تتحمل العبء الأكبر: هي التي تجمع الحطب وتشعل النار، وهي التي تزرع الأرض وتحصد المحصول، وهي التي تعيل الأطفال والشيوخ في غياب الرجال الذين غيبتهم الحرب أو الهجرة. إن الاقتصاد المنتج الذي نحلم به لا يمكن أن يقوم إلا على أكتاف هؤلاء النساء. وإذا كان السودان الجديد يتطلع إلى التحرر من الفقر والتبعية للخارج، فإن مفتاح هذا التحرر يبدأ من تمكين المرأة الريفية: منحها الأرض، التدريب، التمويل، والاعتراف بها كشريك اقتصادي كامل.
٣. من النزوح إلى التنمية لا توجد تجربة أقسى على النفس من أن تُقتلع المرأة من بيتها وأرضها لتجد نفسها في معسكر نزوح أو هجرة قسرية. لكن حتى في قلب هذه المأساة، أثبتت النساء السودانيات أنهن قادرات على تحويل الألم إلى أمل. كثيرات ممن نزحن بسبب الحرب عدن ليقمن مشروعات صغيرة: بيع الخبز، زراعة الخضر، الصناعات اليدوية، وتربية الدواجن. إن هذه المبادرات، على تواضعها، تفتح الطريق لتحويل النزوح من مأساة إلى فرصة. لكن هذا لن يتحقق إلا إذا صارت هناك سياسات واضحة: - تمويل صغير عادل يتيح للنساء إطلاق مشاريعهن الخاصة. - تعاونيات نسوية تربط بين الإنتاج الفردي والأسواق المحلية والإقليمية. - برامج تدريب وإرشاد تقني ترفع من قدرات النساء على مواجهة تحديات الزراعة الحديثة والاقتصاد الرقمي.
بهذا، يصبح النزوح مدرسة في الصمود، ويصبح البناء الجديد مشروعاً جماعياً لا يُقصي المرأة، بل يقودها لتكون في الصفوف الأولى.
٤. نساء التأسيس – من المقاومة إلى القيادة لقد رأينا المرأة السودانية في كل مراحل الثورة: تحمل الطعام للمعتصمين، تسعف الجرحى، تنظّم المظاهرات، وتشارك في لجان الأحياء. لكن هذه المشاركة العملية لم تجد ترجمتها الكاملة بعد في هياكل القيادة السياسية. كفة النساء في قيادة التأسيس ما زالت ضعيفة أو غير راجحة، رغم أن أصواتهن تتصاعد يوماً بعد يوم. المطلوب الآن ليس فقط الاحتفاء بدور المرأة، بل خلق بيئة سياسية وتنظيمية تجعلها شريكاً في صناعة القرار، تماماً كما كانت شريكاً في المقاومة.
٥. السودان فضاء الانصهار حين ننظر إلى خريطة السودان الاجتماعية، ندرك أن هذا البلد لم يكن يوماً جُزُراً معزولة، بل فضاءً واسعاً للانصهار والاندماج. فمن الشمال حيث النوبيون والنوبيون المستعربون ( جعليين و شايقية) ، إلى الغرب حيث الرزيقات والحوازمة والفور،و المسيرية و الماهرية وووو إلى الشرق حيث البجا والرشايدة، إلى الجنوب حيث الكاكوا والشلك والدينكا، ومن الوافدين من الإغريق والترك والمغاربة و الهنغاريون وغيرهم… جميعهم صاغوا معاً هوية سودانية متشابكة. إن هذا الانصهار ليس ضعفاً، بل هو مصدر قوة. هو ما يجعل السودان بلداً قادراً على احتضان الجميع، وتجاوز القبلية الضيقة إلى فضاء وطني جامع. المرأة هنا تمثل هذا الانصهار الحي: فهي التي تربط بين البيوت والقبائل، وهي التي تجسد عملياً تلاقح الدماء والتقاليد.
٦. بداية الطريق الجديد امرأة التأسيس ليست وصفاً عاطفياً أو شعاراً دعائياً، بل هي تجسيد ملموس لصلابة التجربة السودانية. هي التي تواجه القهر بالصبر، والفقر بالعمل، والحرب بالأمل. وهي أيضاً بوابة الانصهار السوداني الذي تتلاقى فيه كل الأنساب والأعراق لتكوّن هوية وطنية جديدة. ومن هنا يبدأ الطريق: من تكامل الرجال والنساء معاً، في معركة التحرير من قيد الحركة الإسلامية وحلفائها، وفي بناء اقتصاد منتج قائم على الزراعة والتنمية الريفية. فالسودان الجديد لن يولد من صفقات النخب أو من موائد التفاوض وحدها، بل من مزارع النساء، ومن عرق الأمهات، ومن صوت المناضلات اللواتي لم يتخلّين عن الوطن في أقسى الظروف.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد عضو موسس في تحالف تأسيس ٢٧ اغسطس ٢٠٢٥ روما، إيطاليا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة