كانوا ثلاثة، كنجومٍ تضمّها سماء واحدة. جمعتهم الحارة منذ نعومة أظفارهم، وكونتهم مدارسها، وأحسنت تعليمهم، حتى استوى عودهم، وأصبحوا رجالًا يشبهون بعضهم في أغلب الطباع. جمعتهم جامعة واحدة، وفرّقتهم قاعاتها، لتجمعهم من جديد كافتيريتها.
اعتاد أهل أم درمان على رؤيتهم معًا في شتّى المحافل والمناسبات؛ في الأفراح تجدهم أوائل المهنئين، وفي الأتراح في مقدّمة المعزّين والمواسين. كانوا معالم بارزة لا تخطئها العين في أزقّة المدينة وحواريها. تزوّجوا في فترات متقاربة، وتوظّفوا وأنجبوا، لكنهم لم يتخلّوا عن طقسهم المحبّب: أن يجلسوا معًا مساء كل يوم، على قارعة الطريق، يرتشفون القهوة والشاي، يتشاورون في شؤونهم الخاصة، يحكون عن آمالهم وآلامهم، ويخطّطون لغدهم، ويضحكون لنكاتهم وطرائفهم، لا يفضّ سامرهم إلا النعاس.
ثمّ أنشبت الحرب أظفارها كوحشٍ كاسر، باغتتهم بلا إنذار. سقطت الدانات والقذائف، ودَوَت الانفجارات في كل مكان، واهتزّت البيوت، وارتجفت القلوب.
لم يُسعف الوقت رفيقهم الثالث، ولو بمثقال ثانية على وداعهما؛ إذ حمل أسرته على عجل، وذاب في جموع النازحين إلى مصر، تاركًا وراءه كل شيء أعزّه وأثمنه: رفيقاه، اللذان لم يبتعد عنهما في حياته قيد شبر. لكنها الحرب... لا تُبقي ولا تذر.
في مصر عاش بجسده، أمّا عقله وإحساسه فلم يبرحا أم درمان. عاش غريبًا، تضيق به الشوارع الواسعة، وتُطبق على صدره العمارات السامقة. يؤرّقه فقد صديقيه وانقطاع أخبارهُما عنه. يتوسّل هاتفه بإلحاح كل يوم كي يمدّه برسالة منهما، أو خبر، أو ضحكة، لكن هاتفه ظلّ صامتًا كصخرة صمّاء.
بعد عامين أمرَّ من الحنظل، وحين خفّت أصوات المدافع، عاد إلى أم درمان تسبقه أشواقه وحنينه إلى كل ذرّة ترابٍ توقظ ذكرى صديقيه. وحين سأل عنهما، سقط عليه الخبر كالصاعقة: – «لقد رحلا... خطفتهما الحرب في غيابك، ولم يخلّفا سوى الذكرى.»
في مساءٍ كئيب، استبدّت به ذكراهما وبلغت أبعد مدى. جلس على قارعة الطريق، وضع ثلاثة مقاعد، ترك كرسيّين فارغين، صبّ القهوة في ثلاثة فناجين، مدّ أحدها يمينًا، والآخر يسارًا، وبدأ يتحدّث إليهما، بودٍّ تارة، وبحماسٍ تارة أخرى، ثمّ مُجهشًا ببكاءٍ يقطع نياط القلب.
صار المشهد مألوفًا في الحارة: رجلٌ وحيد على قارعة الطريق، أمامه فناجين قهوة تفوح رائحتها، وكرسيّان لا يشغلهما أحد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة