أعيد نشر هذا المقال بتصرف ـ بعد أن خططته أول مرة في سبتمبر 2022 ـ لأن حملات التشويه الممنهجة التي تستهدف الدكتور عبد الله حمدوك لم تتوقف. ملايين الدولارات تُصرف يومياً لتبديد صورة الرجل وشيطنته، في حين ينخرط الكثيرين في تزييف غير مقبول لوقائع الفترة الانتقالية، وكأنهم يصرون على دفن الحقائق بلا وازع من ضمير. لذلك وجب التذكير بما جرى، بعيداً عن الافتراء والدعاية، وبالاستناد إلى وقائع وأرقام موثقة.
لتناول فترة حكم الدكتور عبد الله حمدوك بالنقد الموضوعي، لا بد من استدعاء الظرف التاريخي الذي ولدت فيه تلك التجربة. فقد كان المشهد السياسي السوداني محكوماً بقطبين متصارعين:-
· قوى الحرية والتغيير (قحت) التي استندت إلى شرعية الثورة السلمية وزخم الشارع.
· المجلس العسكري الذي ورث تركيبة اللجنة الأمنية للبشير، ممسكاً بزمام السلاح والمال، ومعه شبكات مصالح من الرأسمالية الطفيلية، امتداداً لنظام الإنقاذ.
جاء حمدوك بترشيح من قوى الحرية والتغيير، تنفيذاً لميثاقها والوثيقة الدستورية، ليجد أمامه بلداً مثقلاً بديون تجاوزت 70 مليار دولار، يعيش عزلة دولية خانقة بسبب العقوبات والمقاطعات الاقتصادية. كانت دماء شهداء فض الاعتصام ما تزال حاضرة في الذاكرة، فيما وقف الرجل بين شقي رحى: العسكر من جهة، والفلول من جهة أخرى.
إلى جانب ذلك، جاءت جائحة كورونا لتفاقم الوضع، في وقت كانت الحاضنة السياسية "قحت" تعاني ضعفاً وهشاشة بسبب تباين مكوناتها الأيديولوجية والفكرية وانعدام الانسجام بينها. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد كان عليه أن يواجه أزمات متشابكة: تفاقم الأزمة المعيشية، الأزمات المفتعلة من الفلول والعسكر مثل إغلاق الطرق والموانئ، فضلاً عن حقيقة أن 80% من المال العام كان خارج ولاية وزارة المالية. يضاف إلى ذلك التزامات باهظة فرضها اتفاق سلام جوبا وما تبعه من "خوازيق" داخلية وخارجية لا حصر لها.
أما على الصعيد الإقليمي، فحدّث ولا حرج؛ لم تكن هناك دولة واحدة من دول الجوار تدعم التحول المدني الديمقراطي في السودان. الاستثناء الوحيد كان إثيوبيا، ولكن من زاوية مصالحها الخاصة وهي تشيد مشروعها القومي "سد النهضة" وما يترتب عليه من تقاطعات إقليمية.
في المقابل، وجد حمدوك سنداً من المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي. وقد استطاع أن يكسب دعم هذه الأطراف لأنه عرف كيف يخاطبها، مستلهماً تجارب أفريقية مشابهة مثل تنزانيا ورواندا، التي عبرت أزماتها وخرجت من عنق الزجاجة عبر شراكات ذكية مع تلك الدول وصناديق التمويل الدولية.
ورغم كل تلك الظروف الذاتية والموضوعية، وفي إطار برنامج الإصلاح الشامل الذي تبناه، استطاع حمدوك خلال فترة وجيزة أن يحقق نجاحات اقتصادية غير مسبوقة، يمكن إيجازها في النقاط التالية:
· الحصول على موافقة المؤسسة الدولية للتنمية التي تتبع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على بدء تلقي السودان الإعفاء من الديون بموجب مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC) . · تحسن أداء معدلات التضخم من 412.8% في نهاية يونيو 2021 إلى 365.8% في نهاية سبتمبر 2021وتحسن موقف مؤشرات القطاع الخارجي. · إعادة دمج المؤسسات المالية والمصرفية في النظام المالي العالمي · العمل على تثبيت سعر الصرف حيث ولأول مرة شهدنا انخفاض سعر الصرف الدولار من 452.8 جنيه في نهاية يونيو 2021 إلى 440.7 في نهاية سبتمبر . · سجل الحساب الجاري في الربع الثالث من 2021 عجزا وقدره 194.8 مليون دولار مقارنة بعجز قدره 1,054 مليون دولار في الربع المقابل من عام 2020. · كما انخفض العجز في الميزان التجاري من 2.1 مليار دولار في النصف الأول من 2020 إلى 1.2 مليار دولار في النصف الأول من 2021. · سجل ميزان السلع والخدمات في الربع الثالث من عام 2021 عجزاً وقدره 331.2 مليون دولار مقارنة بعجز 1,143.4 مليون دولار في الربع المقابل في 2020. · ايضاً ارتفعت تحويلات المغتربين من 136.1 مليون دولار في النصف الأول من العام 2020 إلى 716.9 مليون دولار في النصف الأول من عام 2021 ارتفاع إجمالي الإيرادات العامة من 162,730 مليون جنيه في عام 2019 إلى 264,593 مليون جنيه في 2020 بمعدل نمو 62.6%. حظي برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبناه حمدوك بدعم داخلي وخارجي غير مسبوق. فعلى الصعيد الداخلي، وبرغم ضيق العيش، صبر المواطنون على الإجراءات القاسية مثل رفع الدعم عن المحروقات، إيماناً منهم برؤية الحكومة وثقةً في أن هذه السياسات ستقود إلى نتائج إيجابية، ولأن بصيص الأمل كان يلوح في نهاية النفق.
أما خارجياً، فقد وجد البرنامج سنداً سياسياً ومالياً واسعاً من معظم دول العالم، ولا سيما دول الترويكا. وبلغ هذا الدعم ذروته في مؤتمر الشركاء بباريس (مايو 2021)، حيث التفت الأسرة الدولية حول السودان الجديد. ولأول مرة في التاريخ، ألقى مدير البنك الدولي محاضرته السنوية من قاعة الصداقة بالخرطوم، في إشارة بالغة الدلالة على عودة السودان إلى قلب المجتمع الدولي.
وللمزيد عن التحدث بلغة الأرقام أحيل القارئ الكريم للورقة العلمية التي أعدها الدكتور آدم بريمة الحريكة والأستاذة شيماء عوض حاج أحمد محمد عن الأداء الاقتصادي لحكومة الفترة الانتقالية مسودة 10 يناير 2022 كما ن هناك مساهمة غاية في الأهمية طرحها الأستاذ/ فاروق كمبريسي نائب محافظ بنك السودان السابق وذلك بعد مرور 8 أشهر على الانقلاب، مثمناً فاتورة إنقلاب البرهان وما ترتب عليه من خسائر متحدثاً بلغة الأرقام: - صافي التزام البنك الدولي لبرنامج ثمرات بمبلغ 410 مليون دولار، تم صرف 101 مليون دولار قبل الانقلاب والمتبقي 309 مليون دولار، توقفت (خسارة بنسبة 75%). والمانحين الآخرين بمبلغ 350 مليون دولار تم صرف 80 مليون دولار صافي التزام وكالة التنمية الدولية بمبلغ 2.595 مليار دولار، وتشمل (الري، الزراعة، صغار المزارعين، الطاقة، المياه، تجويد الإحصاءات) وتتضمن 500 مليون دولار دعم مباشر للموازنة {تم إيقافها بنسبة 100%} كان مخصص لتوسيع قنوات الري وتفادي العطش بالمشروعات المروية ب 300 مليون دولار والمتبقي منها 270 مليون دولار، خسارة بنسبة 77% المهم صافي الالتزام كان 760 مليون دولار تم صرف 181 مليون دولار والباقي 579 مليون دولار {نسبة خسارة كلية 76%} شوف تأثير الانقلاب على معاش بعض الأسر المستحقة للدعم المباشر وبالطبع تحتاج الأسر مزيداً من الدعم لتخفيف أثر تصحيح السياسات نجي كمان للمساعدات الأمريكية، لو حولنا كمية القمح بالقروش، نجد صافي الالتزام 588 مليون دولار، تم استلام قمح ما يعادل 87 مليون دولار والباقي قمح بقيمة 501 مليون دولار {خسارة بنسبة 85%} وبالمناسبة القمح دا مخصص فقط للخبز المدعوم (أبو 5 جنيهات داك) وغير مسموح استخدامه للخبز التجاري بالإضافة لمبلغ آخر بقيمة 700 مليون دولار لأغراض مختلفة ودا لم يصرف منه شيء أي خسارة بنسبة 100% ليصبح إجمالي الدعم الأمريكي 1.288 مليار دولار، تم تنفيذ 87 مليون دولار منه والباقي 1.201 مليار دولار لم ينفذ {أي خسارة بنسبة 93%. وقد خلص الأستاذ فاروق إلى أن صافي الالتزام المفروض ينفذ ويتصرف حوالي 4.643 مليار دولار وتم تنفيذ 268 مليون دولار فقط والمتبقي حوالي 4.375 مليار دولار {أي خسارة بنسبة 94%. ودا جزء يسير من الدعم والمساعدات المالية المقدمة للإصلاح الاقتصادي. (انتهى النقل) بالتأكيد لم تخلُ تجربة حكومة حمدوك من سلبيات وإخفاقات. أبرزها ـ في تقديري ـ عدم استثماره للزخم الثوري والتفويض الشعبي الجارف الذي حازه في بدايات الفترة الانتقالية؛ تفويض لم ينله أي رئيس وزراء أو حاكم في تاريخنا الحديث. لكنه، شأن أي تفويض سياسي، كان محدود الأجل، سرعان ما بدأ في التراجع مع تباطؤ الأداء الحكومي.
ومما زاد الأمر تعقيداً أن حمدوك اختار الاعتماد على الشرعية المؤسسية بدلاً عن الشرعية الثورية، في بلد ما يزال يرزح تحت مؤامرات الدولة العميقة، وسموم خفافيش الظلام، وحاضنة سياسية مفككة ضعيفة، ازدادت ضعفاً بعد أن تخلى عنها الحزب الشيوعي.
وقد عبّر الدكتور مجدي إسحق عن هذا المأزق بدقة حين قال في إحدى مقالاته ناصحاً حمدوك:
"الأمل شعبته ركيزتان لا ثالث لهما: الأولى الشفافية وكسر حواجز الترقب المجهول والجلوس في الظلام، والثانية استصحاب طاقات شعبنا ليكون جزءاً من عملية التغيير ومسؤولاً عنها، يحلم بالغد ويُعطى مساحات للعمل لتنفيذ أحلامه... مفارقاً مقاعد الانتظار للفرج القادم، مؤمناً بأنه هو من يصنع المستقبل."
ومع ذلك، يبقى من الإنصاف القول إن ما أنجزه الدكتور عبد الله حمدوك ـ وما كان يمكن أن يُنجزه لو لم يقطع الانقلاب الطريق ـ كان كفيلاً بأن يخرج بالسودان من عنق الزجاجة. وما تكبدناه من خسائر بعد انقلاب البرهان لا يقاس بما تحقق قبل ذلك. ولله درك يا سودان... _______________________________________________ عاطِف عبدالله قسم السيد Atif Abdalla Gassime El-Siyd
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة