مرة أخرى، يُطرح اسم سوبا كبديل للعاصمة الخرطوم، وكأننا أمام محاولة لكتابة فصل جديد من تاريخ الدولة السودانية. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هي عودة جادة لإحياء مؤسسات الدولة في قلب الدمار، أم مجرد مشهد من مسرحية استعراضية تُقدَّم لجمهور سئم الخطب والصور الرسمية؟ من رمزية التاريخ إلى عبث الحاضر سوبا، التي ترمز في التاريخ السوداني لخرابٍ وانهيارٍ ملكٍ ودولة، تستدعى اليوم كـ"رمز سياسي" لحكومة تبحث عن موطئ قدم وسط العاصفة. لكن استدعاء المكان لا يعني بالضرورة استدعاء المعنى. فهل يمكن أن تتحول سوبا من ذكرى الخراب إلى نقطة انطلاق جديدة؟ أم أنها مجرد ديكور يُستحضر للتغطية على عجز الحكومة عن استعادة الخرطوم نفسها؟ مشهد استعراضي في وطن ينهار بينما يواجه ملايين السودانيين الجوع، وانعدام الأمن، وتفكك الخدمات الأساسية، نجد أن النقاش الرسمي ينصبّ على مكان الاجتماع ورمزية المقر. يظهر الوزراء أمام الكاميرات في قاعات مكيفة، بينما تتآكل حياة المواطنين على أطراف الخرطوم والولايات. هل يحتاج الشعب إلى مؤتمرات صحفية من سوبا، أم إلى لقمة الخبز والماء النظيف والأمان؟
"عودة بقال" وعبث التبريرات ولأن المشهد لا يكتمل دون عبث، جاءت عودة بقال إلى صفوف الجيش لتفتح بابًا جديدًا للسخرية. فالمناصرون تسابقوا لتقديم "تبريرات تاريخية" لعودته، وكأن الخيانة يمكن أن تُغسل بماء الخطابات وكأن العودة إلى الجيش وحدها كفيلة بمحو كل ما قبلها. والأدهى من ذلك، أن ذات المنابر التي تبارك "رحمة العائدين" هي نفسها التي تبرر قتل "المتعاونين بلا سند أو دليل"! أي عدالة هذه التي تُعدم مواطنًا لمجرد شبهة، بينما تُفرش الورود للعائدين بحسابات سياسية؟ أي منطق هذا الذي يرفع شعار "لا خيانة بلا عقاب"، ثم يستثني من شاء بفقه المصلحة؟ التضليل الإعلامي- رقص على جراح الناس المفارقة أن هذه التناقضات لا تُقدَّم كحقائق، بل تُبثّ في قوالب إعلامية مُنمقة، تُسوّق على أنها "انتصارات معنوية" أو "توسيع لقاعدة الدعم الشعبي". بينما الواقع يكشف أن ما يحدث هو مجرد تضليل إعلامي فاضح، يبرر القتل هنا، ويمجد العفو هناك، ويحول الكارثة الوطنية إلى مسرحية متعددة الفصول. هروب إلى الأمام الانتقال إلى سوبا قد يبدو وكأنه تحرك سياسي، لكنه في العمق ليس أكثر من هروب إلى الأمام. فالحكومة التي لم تستطع حماية العاصمة، تقدم الآن انتقالها إلى أطرافها على أنه "إنجاز". وكأن الحرب ستتوقف لأن المكاتب انتقلت عشرين كيلومترًا جنوبًا، أو كأن الجوعى سيشبعون من مجرد صورة جماعية جديدة.
العودة إلى سوبا، وعودة بقال، وكل ما يرافقهما من خطابات ومبررات، ليست سوى عروض مسرحية تُعرض على مسرح الوطن المنهار. عروض تعتمد على التضليل الإعلامي لتغطية عجز الدولة وفشلها. لكن الشعب السوداني يرى الحقيقة بوضوح- الكاميرات لا تُنقذ جائعًا. تبريرات المناصرين لا تُعيد ثقة مفقودة. والرحمة الانتقائية لا تبني دولة. في النهاية، ما يُقدَّم اليوم ليس أكثر من استعراض بلا مضمون، وباليه سياسي مأساوي يرقص على جراح شعب يدفع ثمن العبث كل يوم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة