في المنافي والاغتراب، كان يُفترض أن يجتمع السودانيون على كلمة سواء، وأن يتجاوزوا خلافات الداخل وجراحاته. لكن الواقع كثيرًا ما يكشف عن مشهد آخر مؤلم: أبناء السودان، الذين تجمعهم الأرض واللغة والتاريخ، تفرّقهم القبيلة حتى في بلاد لا تعترف بالقبائل.
يهاجر الشاب السوداني طلبًا للأمان أو الرزق، فيجد نفسه وسط جالية كان يظنها وطنًا مصغّرًا يخفّف وحشة الغربة. غير أن بعضهم يُفاجأ بأن نفس النزعة القبلية التي هرب منها في بلاده تطارده في الخارج، في مقاهي المغتربين وجمعياتهم وحتى في تعاملاتهم اليومية. قبيلة فلان لا تجلس مع قبيلة علان، وهذا من "الوسط"، وذاك من "الشرق"، وتلك من "الغرب"، لتتكرر الحواجز التي شتّتت الوطن داخل حدوده.
المؤلم أكثر أن هذه العنصرية الداخلية تُفاقم عزلة السوداني في الخارج. فبدل أن يقدّم صورة متماسكة عن شعبه أمام الآخرين، ينغمس بعضهم في صراعات صغيرة تزيدهم ضعفًا وتقلل من احترام الآخرين لهم. كيف يمكن لمغترب أن يطالب بحقوقه أو يحافظ على كرامته وهو يحمل في داخله بذور التفرقة ضد أخيه؟
القبلية ليست مجرد "انتماء"، بل تتحول إلى سلاح يجرح الكرامة ويزرع الشك بين من يفترض أنهم إخوة. وكأن التاريخ يعيد نفسه: صراعات أنهكت الوطن الأم، ثم خرجت لتسكن في قلوب المهاجرين.
لكن لا يزال هناك أمل. فالكثير من السودانيين في الخارج يعملون جاهدين لكسر هذه الدائرة المظلمة. تجد مبادرات شبابية تتجاوز الحواجز، ومجموعات خيرية لا تسأل عن قبيلة المتبرع ولا قبيلة المحتاج، وإنما تسأل: "هل هو سوداني؟ هل هو إنسان؟". هؤلاء يشكّلون شموعًا تُضيء طريقًا آخر، طريق الوحدة.
إن الغربة امتحان قاسٍ، لكنها أيضًا فرصة. فرصة ليدرك السوداني أن العالم لا ينظر إلى قبيلته، بل إلى سلوكه وإنسانيته. وإذا لم نتعلّم أن نرتقي فوق جراح القبلية في المهجر، فمتى سنتعلم؟
لقد آن الأوان أن نفهم: ما فرّقنا في الداخل يجب ألا يتبعنا في الخارج. نحن في حاجة إلى أن نُعيد تعريف أنفسنا لا بقبائلنا، بل بإنسانيتنا وسودانيتنا. فالعالم لا يحترم من يمزّق نفسه بنفسه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
الطيب محمد جاده
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست