في خضم الحرب المستمرة، تتردد بين الفينة والأخرى أصوات تنادي بعودة الحياة إلى العاصمة الخرطوم، وتطالب الحكومة بمباشرة مهامها من قلب المدينة. لكن السؤال البديهي يفرض نفسه: إذا كانت الخرطوم آمنة وصالحة للعيش، فلماذا لم تعد الحكومة نفسها إليها؟ الحقيقة أن الخرطوم اليوم لم تعد مدينة عادية، بل تحولت إلى عاصمة منكوبة، بيئة طاردة للحياة البشرية، ومسرح مفتوح لفوضى عسكرية وأزمات إنسانية تتجاوز الوصف. مدينة في مرمى النيران على المستوى العسكري، أي وجود للحكومة أو المؤسسات داخل الخرطوم سيظل هدفًا مشروعًا للصواريخ والمدفعية. لا توجد خطوط دفاع محصنة ولا مناطق آمنة بالمعنى الحقيقي، ما يجعل فكرة الاستقرار الأمني أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. فالعاصمة التي كانت يومًا رمزًا للسيادة الوطنية صارت اليوم رهينة معادلات القوة والسلاح.
انهيار الخدمات الأساسية الأخطر من رصاص المعارك هو الانهيار الكامل للبنية التحتية والخدمات التي تشكل أساس الحياة اليومية. المياه نهر النيل، شريان الحياة، تحول إلى مصدر للموت بعد تلوثه بالجثث والمخلفات الطبية والصناعية، ما ينذر بانتشار أوبئة كالكوليرا والتيفوئيد على نطاق واسع. الكهرباء الانقطاع المستمر للتيار يعطل عمل المستشفيات وضخ المياه وحفظ الأدوية والغذاء. الصحة المستشفيات بين مدمرة أو متوقفة، والطواقم الطبية غادرت، والأدوية شحيحة إلى حد معدوم. لا نظام صحي يذكر، بل مجرد محاولات يائسة للبقاء.
أزمة إنسانية خانقة الحياة اليومية في الخرطوم أشبه بجحيم مفتوح: الأسواق شبه خاوية، والأسعار تضاعفت بشكل يفوق قدرة المواطن. شربة ماء آمنة باتت تحديًا يوميًا.
في غياب السلطة، انتشرت العصابات وعمليات السطو المسلح، فأصبح الأمن الشخصي رفاهية نادرة. ملايين السودانيين نزحوا تاركين منازلهم، بعضهم إلى ولايات أخرى وآخرون عبر الحدود. الخرطوم اليوم مدينة فارغة من سكانها، مليئة بأشباح الحرب والجوع. الخرطوم.. عاصمة غير قابلة للحياة حين يتحول مصدر الماء إلى مصدر وباء، وحين تغرق الشوارع بالقمامة والمخلفات، وحين تنتشر الحشرات والقوارض في كل ركن، فإننا لا نتحدث عن أزمة عابرة بل عن انهيار شامل. الخرطوم لم تعد عاصمة سياسية، ولا مدينة مأهولة، بل منطقة كوارث بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لماذا لا تعود الحكومة؟ الجواب واضح الحكومة لم تعد لأنها تدرك أن العودة مخاطرة غير محسوبة. لو كانت العاصمة قابلة للحياة أو العمل السياسي، لكانت الحكومة أول العائدين. غيابها يعكس إدراكًا عميقًا بأن الخرطوم لم تعد مركز إدارة بل ساحة حرب مفتوحة لا تصلح حتى للمدنيين البسطاء.
حرب بلا منطق المفارقة أن الحرب اندلعت بينما كان السودان على أعتاب اتفاق سياسي يهدف لدمج قوات الدعم السريع في الجيش وإصلاح المؤسسة العسكرية. لكن سرعان ما تحولت الطاولة إلى ساحة قتال. لا طرف قادر على الحسم، ولا دولة قادرة على النهوض في ظل نزيف طويل. يشبه المشهد ما حدث في سوريا واليمن وليبيا: صراع مسلح يبتلع المدن الكبرى، فيما يتآكل المجتمع من الداخل. انعكاسات إقليمية ودولية المشهد السوداني لا ينفصل عن جواره. مصر تنظر إلى السودان باعتباره عمقًا استراتيجيًا وأمنًا مائيًا، وإثيوبيا تتابع الأزمة بقلق من زاوية الحدود وسد النهضة، بينما القوى الكبرى تتعامل ببرود لافت تاركة البلد يتخبط بين المبادرات الفاشلة والعقوبات غير المفعلة. لكن وسط هذا التجاذب، يظل المواطن السوداني هو الضحية الأولى: نازحًا في الداخل، لاجئًا على الحدود، أو محاصرًا في عاصمة تحولت إلى جحيم. الخاسر هو السودان
إن الدعوات للعودة إلى الخرطوم اليوم ليست سوى شعارات عاطفية بعيدة عن الواقع. فالعودة ليست بطولة ولا وطنية، بل تهور في مواجهة موت يتربص في كل زاوية: جوع، عطش، مرض، ورصاص.
الخرطوم تحتاج قبل أي عودة إلى وقف إطلاق نار حقيقي، وإعادة بناء الخدمات الأساسية، وجهد إنساني ضخم يرفع عنها صفة "المدينة المنكوبة". وحتى ذلك الحين، ستظل العودة مستحيلة.
فالسلامة تسبق السياسة، والحياة تسبق الحكم. والسودان الذي يخسر عاصمته اليوم، قد يخسر غدًا أكثر مما يحتمل إذا استمرت هذه الحرب "ضد المنطق".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة