الحرب السودانية بين بنية الإفلات من العقاب وإمكان العدالة التاريخية: النخب، الإعلام، والمشروع الدستوري التأسيسي
21/8/2025 خالد كودي
الجزء الثاني
السودان في مرآة التجارب الدولية: ما تقوم به النخب السودانية المتحالفة مع الجيش، أو المتواطئة معه، أو تلك التي تخشى التغيير لأسباب تتراوح بين العجز البنيوي وضعف الإرادة وانعدام الخيال السياسي–الإبداعي، هو تكريس لاستمرار الأزمة لا تجاوزها. فبدلاً من قيادة التاريخ وصناعة مستقبل جديد بجرأة وإبداع، تظل هذه النخب أسيرة ماضٍ يعيد إنتاج ذاته، مدفوعةً بخوفها من فقدان الامتيازات أو من مواجهة المجهول.
في هذا السياق، يظهر السودان في مرآة التجارب الدولية مثالاً صارخاً على الانحراف المعرفي والأخلاقي: إذ تُحوَّل بعض التجاوزات المحدودة أو الأحداث المجتزأة إلى رموز سياسية وإعلامية، بينما يُغفل تماماً تحليل البنية العميقة التي أنجبت العنف. ما يسميه ميشيل فوكو "سياسة الصورة" يتحول هنا إلى أداة لإعادة إنتاج السطحية وتغييب الأسئلة الجوهرية، فينحصر النقاش في مشاهد الصدمة بدل أن ينفتح على تفكيك جذور الأزمة وبناء مشروع تحولي بديل
- العراق بعد 2003: جرى تضخيم صور سجن أبو غريب كرمز مطلق للجريمة الأميركية، فيما جرى التعتيم على تفكيك مؤسسات الدولة ونهب الموارد وتدمير النسيج الاجتماعي. - سوريا: الإعلام الدولي ركّز على الهجمات الكيميائية كأحداث صادمة، بينما تم تهميش ممارسات يومية واسعة مثل الحصار والتجويع والقتل البطيء - جنوب إفريقيا إبان الأبارتيد: الانتهاكات الوحشية للأجهزة الأمنية عُرضت كإجراءات "لحماية الدولة البيضاء"، فيما ضُخّمت أفعال المقاومة لتبرير شيطنة المؤتمر الوطني الإفريقي. - يوغسلافيا السابقة: التطهير العرقي والاغتصاب الجماعي جرى التهوين منه بوصفه "أحداثاً مؤسفة"، بينما ضُخمت تجاوزات الجيش البوسني أو الكرواتي لتبرير استمرار هيمنة "حماة الأمة. - ألمانيا النازية: حولت قوانين نورمبرغ التمييز العرقي والقتل إلى نظام قانوني مشروع، مبرراً بخطاب "النقاء العرقي".
رابعاً: في مخاطر عزل الأحداث الفردية ونفاق النخب في السودان يتكرر النمط ذاته الذي شهدناه في تجارب دولية عديدة: تُستغل تجاوزات قوات الدعم السريع – سواء كانت فردية أم جماعية – لتشويه متعمد لمشروع "تأسيس" وتصويره على أنه مشروع قائم على العنف، مع تجاهل متعمد للميثاق والدستور التأسيسي اللذين نصّا بوضوح على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وآليات المحاسبة. في المقابل، تُمنح المؤسسة العسكرية حصانة مطلقة رغم سجلها الدموي الممتد: من الإبادة الجماعية في دارفور إلى مجازر القيادة العامة والخرطوم، ومن حرق القرى إلى القصف العشوائي وتشريد الملايين، وصولاً إلى صناعة المليشيات وإعادة تدويرها كأدوات عنف تابعة للدولة.
النخب السودانية التي تناهض مشروع "تأسيس" لا تختلف في سلوكها عن النخب العنصرية في جنوب إفريقيا، أو النخب القومية الصربية، أو النازية الألمانية: جميعها مارست عملية شرعنة لجرائم مؤسساتها العسكرية والأمنية، وشيطنة لمشاريع الخصوم الثورية، لأنها تدرك أن أي بديل يقوم على العدالة التاريخية والمحاسبة يهدد امتيازاتها المتجذرة. وهنا يصبح المقام مقام عدالة تاريخية لا يمكن الالتفاف عليها.
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن الحديث عن عدالة أو مصالحة حقيقية إذا ظلت الجرائم تُقاس بمعايير مزدوجة – تُبرر إذا ارتكبها الجيش، وتُضخّم لإسقاط المشاريع البديلة إذا ارتكبها الآخرون؟ إن القراءة الجادة والمُحكمة للتجاوزات في السودان تقتضي النظر إليها كبنية ممتدة لا كأحداث منعزلة: دولة تمارس استعماراً داخلياً ضد مواطنيها كما وصف فانون، ونخب متواطئة تعيش على ما سمّته حنّه أرندت "تفاهة الشر"، حيث يتحول القانون ذاته إلى أداة لإدامة العنف. إن الدولة وقوانينها السائدة ما زالت عاجزة عن إدراك أن العنف ضد المهمشين ليس عرضاً طارئاً بل بنية متجذرة، تُكرَّس عبر نظم وتشريعات تفرّق بين المواطنين على أساس الدين، والإثنية، والجهة، والنوع الاجتماعي. أما الاكتفاء بعزل الأحداث الفردية وتوظيفها سياسياً كسلاح ضد مشروع تأسيسي تحولي، فهو ليس سوى استمرار لسياسة الإنكار، وإعادة إنتاج للبنية التي ولّدت المأساة منذ الاستقلال.
خامساً: دور النخب السودانية والإعلام - قراءة اتصاليّة/ اعلامية - سيكولوجيّة في اقتصاد الامتياز: تلعب النخب المتماهية مع حكومة بورتسودان وجيش البرهان علنا او علي حياء دوراً أساسياً في تشكيل الإدراك العام للصراع، لا بوصفها "مُعلِّقاً" محايداً، او منحازا لحقوق الانسان وضد التجاوزات (خاصة ان كانت تجاوزات انسان الهامش) بل كفاعلٍ يسعى لصون اقتصاد الامتياز التاريخي. ومن منظور علم الاتصال وعلم نفس النخب، فإن حالة التركيز على التجاوزات الفردية (وليس "تضخيمها") تعمل كآلية موضوعية لإدارة الانتباه الجماعي، بما يُبقي الجرائم البنيوية للجيش خارج إطار الرؤية، ويحمي بنية مصالح مركزية لم تعتد المساءلة!
١/ بنية المصالح: حقل السلطة ورأس المال الرمزي وفق مقاربة بورديو، تتقاطع حقول السلطة (العسكري/الأمني، البيروقراطي، المالي–التجاري، الديني–الثقافي، والإعلامي) عبر تبادل رأس المال الرمزي: يمنح الإعلام شرعيةً خطابية للجيش، ويمنح الجيش للإعلام "الوصول الحصري" والمصادر الرسمية. هذه التبادلية تُنتج اصطفاءً منهجيّاً للوقائع: ما يُنشر وما يُسكت عنه، ومن يُسمّى "وطنياً" ومن يُوسم "متمرّداً".
٢/ علم الاتصال: كيف تُدار الرؤية العامة؟ تحديد الأجندة: - تُقرّر النخب والإعلام ما يجب على الجمهور التفكير فيه، عبر جعل التجاوزات الفردية مادةً يومية للاهتمام، بينما تُهمَّش بنية العنف المنظّم المرتبط بالمؤسسة العسكرية والأيدلوجية/العقيدة المحركة لها. - التأطير تُصاغ الحوادث الفردية ضمن إطار سببي–أخلاقي ينتج تسميةً واتهاماً محدّدين (naming and blaming) تُقدّم بعض الانتهاكات بوصفها "جوهر" خصومهم، فيما تُعاد صياغة انتهاكات الجيش كـ"أخطاء عملياتية" لمؤسسة شرعية. التهيئة: (Priming) - عبر التكرار، تُعاد معايرة معايير الحكم العام: يصبح "الأمن" معيار التقييم الأوّل، فتبدو أي مساءلة للجيش "خطرًا" على الاستقرار. حلزونية الصمت: (Noelle-Neumann)- حين يُشيطن الإعلام خطاب العدالة التاريخية، يتراجع الفاعلون الاجتماعيون عن الإفصاح بمواقف نقدية خوفاً من العزلة أو العقاب. تصنيع القبول: (Herman and Chomsky)- - تعمل "مرشّحات" التملك والتمويل والإحالة إلى المصادر الرسمية و"العصف" المضاد على جعل السردية الموالية للمؤسسة العسكرية هي القصة الافتراضية للأحداث. الذعر الأخلاقي: (Stanley Cohen)- تُستدعى "أيقونات" صادمة من الانتهاكات الفردية لإنتاج فزعةٍ تُبرّر سياسات قمعية، وتُعيد توجيه الغضب بعيداً عن جذور الأزمة. بهذا المعنى، حالة التركيز على التجاوزات الفردية ليست مجرد ميلٍ بلاغي، بل تقنية اتصالية/اعلامية قابلة للقياس: انتقاء مصادر، تكرار عناوين، انتقاء صور وشهادات، وجدولة النشرات بحيث تُبقي البنية الجُرمية للنظام القديم في الهامش.
٣/ سايكولوجيا النخب: لماذا يُقاوِمون التأسيس؟ انحياز الوضع القائم (Status Quo Bias)- وكراهة الخسارة (Loss Aversion)- - لدى النخب يجعلان أي مشروع للعدالة التاريخية تهديداً مباشرًا لامتيازات متوارثة تفكير القطيع/الجماعة (Groupthink)- - في الدوائر السياسية السودانية - الإعلامية يُنتج يقيناً زائفاً: "الدولة لا تقوم إلا بالجيش"! - النرجسية الجمعية وذهنيّة الحصار تُشرعنان تجريم الخصوم واعتبار المساءلة "مؤامرة" على الوطن - عند أرندت، حين تعجز السلطة عن الإقناع تلجأ إلى العنف؛ وعند فانون، يتحوّل العنف إلى استعمار داخلي تُمارسه الدولة على مواطنيها. كلاهما يصف بدقة مسلك النخب حين تُواجَه بمشروع تأسيسي يبدّل قواعد اللعبة.
٤/ الإجراءات الاحترازية: كيف تُترجم الخشية سياساتٍ؟ - قانونياً–إجرائياً: تشريعات طوارئ، توسيع تعريف “الإرهاب/التخريب”، تقييد المجتمع المدني، وملاحقة الصحفيين والباحثين. - سردياً - خطابياً: وصم دعاة العدالة التاريخية بـ“تفكيك الدولة”، واستثمار خطاب الهوية والكراهية لإنتاج قبولٍ عام بسياسات إقصائية. - تنظيم الانتباه: غرف أخبار موالية، مؤتمرات صحفية مُدارة، وتسريب انتقائي يُوجّه جدول الأعمال العام بعيداً عن العنف المُمأسس (القصف العشوائي، التعذيب الممنهج، التهجير طويل الأمد).
٥/ النتيجة: شرعنة الإفلات وتعطيل العدالة التاريخية: هذه المنظومة تُنتج ثلاثة آثار متلازمة: - تجريم انتقائي للخصوم عبر التركيز على حوادث منفصلة بوصفها "جوهر هم"، مع إعادة توصيف جرائم الجيش كأخطاء مبرَّرة. - تأثير تقشعر له الأبدان! (Chilling Effect) - كلفة الكلام عن المساءلة ترتفع، فتتراجع أصوات الضحايا والشهود - تجويف المساءلة: تتحول العدالة الانتقالية إلى شعارات بلا مؤسسات، ويُعاد تدوير النخب نفسها في أجهزة الدولة، فتستمر دورة العنف. ٦/ نحو قلب المعادلة: ما الذي يقتضيه مشروع تأسيس؟ - إعادة هيكلة حقل الاتصال العام: استقلال الإعلام العمومي، شفافية مصادر الخبر، وإنهاء الاحتكار الرسمي للمعلومة - مأسسة الحقيقة والمحاسبة: لجان تقصّي مستقلة بصلاحيات استدعاء وحماية شهود، أرشفة مفتوحة للانتهاكات، وقضاء قادر على مساءلة كل الفاعلين بلا حصانات. - التثقيف الحقوقي والذاكرة الجماعية: برامج مستدامة لكسر "حلزونية الصمت"، وحفظ الشهادات كجزء من عقد اجتماعي جديد. - ربط اليومي بالبِنيوي: كل حادثة تُقرأ ضمن خرائط نمطية للعنف، لا كصورةٍ طارئة تُستهلك وتزول.
الخلاصة: إن "حالة التركيز على التجاوزات الفردية المثيرة" علي فداحتها، مفهومة علمياً بوصفها استراتيجية اتصالية/إعلامية - نفسية تُستخدم لحماية امتيازات نخبٍ تخشى المساءلة. تفكيكها يتطلّب نقل بؤرة النظر من "التشويق الأخلاقي" في الحوادث المعزولة إلى البنية الجُرمية للدولة العنيفة، حيث تُصبح العدالة التاريخية شرطاً لبقاء المجتمع، لا تهديداً للنخب فحسب. وفي هذا الأفق، يغدو مشروع تأسيس - بما يطرحه من التزامات دستورية بحقوق الإنسان والمحاسبة - ليس خصماً للإعلام والمسؤولية، بل الإطار المؤسسي الوحيد القادر على إنهاء اقتصاد الامتياز الذي يقتات على إدارة الانتباه والخوف من التغيير.
: سادسا: القوانين الدولية والإمكانات الواقعية - القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها) يفرض قواعد واضحة حول حماية المدنيين والأسرى والأعيان. لكن تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من المنظمات، والمؤسسات الحقوقية تكرر أن الإشكالية ليست في النصوص بل في تطبيقها. الفقهاء مثل هانس بيتر غاسر يؤكدون أن "الحروب الأهلية تمثل التحدي الأكبر للقانون الإنساني، لأن أطرافها غالبًا لا تعترف بشرعية الآخر."
أخيرا: إنّ الدفاع عن الميثاق والدستور التأسيسي لا يقوم على إنكار الانتهاكات المصاحبة للحرب، بل على وضعها في إطارها العلمي- الموضوعي لفهم جذورها ووظائفها: - الحرب الأهلية بطبيعتها مولِّدة للانتهاكات: فكل حرب داخلية تُنتج فراغات قانونية وممارسات خارجة عن الضبط، وهو ما تؤكده الدراسات المقارنة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع العسكري. - المعيار ليس غياب الانتهاك بل وضوح آليات معالجته: يُقاس صدق المشروع السياسي بمدى التزامه ببناء منظومة مساءلة ومحاسبة شفافة، وقدرته على تحويل المبادئ الدستورية إلى مؤسسات وقوانين، لا بقدرته المطلقة على منع كل خرق في لحظة الفوضى، وهنا تكمن اولي اختبارات حكومة تأسيس القادمة. - الإعلام والنخب المتحالفة مع الجيش تعيد إنتاج الهيمنة: إذ تُوظّف الانتهاكات الفردية كأداة لتشويه المشاريع البديلة، وتغضّ الطرف عن الانتهاكات البنيوية والممنهجة للدولة وللجيش. هذا السلوك يُعيد إنتاج "اقتصاد الإفلات من العقاب" الذي خبرته الدولة السودانية منذ عقود.
وعليه، فإن السؤال الجوهري ليس: هل وقعت انتهاكات؟ بل: أي مشروع سياسي يملك رؤية مؤسسية واضحة للمحاسبة، وحسماً لمعادلة الإفلات من العقاب، وبناء دولة عدالة تاريخية جديدة؟ في هذا الإطار، يطرح تحالف "تأسيس" بمرجعيته الدستورية المبدئية بديلاً تاريخياً، يقف على النقيض من منطق الحصانات والاستثناءات الذي يحكم حكومة بورتسودان وجيشها، ويفتح الطريق نحو عقد اجتماعي جديد يربط الشرعية بالمحاسبة لا بالقوة العسكرية.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة