ما يقدم في هذه السلسلة ليس مجرد إنتاج معرفي، بل مساهمة ذات أفق تحرري يستهدف تفكيك بنية تنظيم ديني سياسي ساهم بصورة مباشرة في تقويض الدولة السودانية، وأعاد إنتاج منظومات الاستبداد والفساد والظلم تحت غطاء ديني مُؤدلج. إنها محاولة لاستعادة العقل من قبضة التقديس غير المُساءل، وإعادة بناء الإنسان بوصفه فاعلا أخلاقيا حرا، لا تابعا مبرمجا. لقد لعبت الأيديولوجيا في السودان دورًا تخريبيًا عميقا، إذ ألبست المجتمع ثوبًا ليس ثوبه، وفرضت عليه سرديات لا تنبع من تجربته التاريخية ولا من نسيجه الثقافي. أيديولوجيا الإسلام السياسي، على وجه الخصوص، لم تقدم مشروعا أخلاقيا أو معرفيا، بل مشروعا سلطويا يُعيد تشكيل الإنسان وفقًا لمصلحة التنظيم، لا وفقا للمصلحة الوطنية. لقد قتلت العقل، وشيطنت النقد، وحوّلت الدين من منظومة قيم إلى أداة تطويع، مما أدى إلى تشويه صورة المجتمع، وتفكيك بنيته الأخلاقية، وتهميش إرادته الجماعية. تُظهر التجربة السودانية بجلاء أن تنظيم الإخوان المسلمين لم يكن يوما مشروعا دعويا إصلاحيا، بل بنية تنظيمية مغلقة، وظيفتها الأساسية هي إعادة تشكيل المجال العام بما يخدم مصالحها، ولو على حساب الدولة والمجتمع. لقد دمّر هذا التنظيم مؤسسات الدولة، شوّه منظومة التعليم، مزّق النسيج الإجتماعي، وشرعن الفساد باسم العقيدة. وما حدث في السودان لا يمكن فهمه إلا بوصفه نموذجًا تحذيريًا، لا حالة استثنائية، يُنبّه العالم العربي والإسلامي إلى خطورة إعادة إنتاج الكارثة تحت شعارات دينية توظف سياسيا، لا أخلاقيا. ولعلّ الحرب اللعينة التي اندلعت في السودان بعد ثورة سلمية عظيمة، أشاعت الأمل في نفوس ملايين السودانيين والسودانيات، تُشكّل الشاهد الأشد فتكًا على الدور التخريبي لهذا التنظيم. لقد حوّلوا الحلم إلى رماد، والإنتقال إلى فوضى، والحرية إلى حرب. وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغلهم في مفاصل الدولة، وتحالفهم مع العسكر، وتوظيفهم للدين كأداة قمع لا كقيمة تحرر. في هذا المقال التمهيدي، نُعلن انطلاق سلسلة فكرية بعنوان "السمّ المقدّس"، تتكون من اثني عشر مقالًا، تُعالج كل منها جانبا من جوانب البنية الإخوانية: من الجذور التاريخية، إلى العلاقة البنيوية مع الحركات السرّية، إلى تخريب التعليم، وتهميش المرأة، وتوظيف الدين في خدمة الاستعمار الجديد. كما تُفكك الخطاب الإخواني من منظور فلسفي وسوسيولوجي، وتُظهر كيف يُستخدم الاقتصاد كشعار، والديمقراطية كقناع، والعنف كعقيدة. وتختتم السلسلة بتحليل أزمة القيم داخل التنظيم، وانهياره الداخلي، ثم تقديم البديل الأخلاقي والفكري الذي يُعيد الاعتبار للإنسان، والدين، والوطن، والعقل. هذه السلسلة تُكتب من موقع المساءلة الأخلاقية، لا الخصومة السياسية. إنها دعوة إلى إعادة تعريف الدين كمنظومة قيم تُحرّر الإنسان، لا تُخضعه؛ وإلى إعادة بناء الوطن كعقد إجتماعي يقوم على العدالة والمواطنة؛ وإلى تحرير النهضة من أسر الشعارات، لتُصبح مشروعا معرفيا تحرريا يُنتج الإنسان الحر، لا العضو الطائع. من لم يكن حرا، فلن يكون نهضويا ومن لم يُفكّك الخطاب، سيظل عبدا للرمز "السمّ المقدّس" ليس فقط ما يُقال، بل ما يقدس دون مساءلة. وهذه السلسلة هي بداية مساءلة كبرى، تنطلق من قلب السودان، وتخاطب ضمير الأمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة