منذ أن سال دمُ هابيل على تراب الأرض بيد أخيه قابيل، ظلّت البشرية تعيد سرد الحكاية نفسها بأصواتٍ متعدّدة، وكأنّها أسطورة تتقمّص الأزمنة والأمكنة لتشير إلى أن الصراع ليس حادثة عابرة، بل جذر ممتدّ في النفس الإنسانية، يتأرجح بين النور والظلمة، بين أنفاس الرحمة ووساوس الأنانية. في فجر التاريخ انفتح الجرح الأوّل، ومنذ ذلك الحين ظلّ العارفون وأهل التصوّف يدرسون هذا الجرح بعيون متأمّلة وقلوب متسائلة: كيف يقتل أبناء التراب بعضهم من أجل ما يفنى، بينما أرواحهم عطشى لسلام لا يزول؟
في صمت الليل، وبين الظلال المتوارية، يمكن أن نسمع همس محمد الفيتوري، كأنه يتأمل في أعماق النفس البشرية ويهمس لنا: لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا، لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا، أدنى ما فينا قد يعلونا.
إنها مرايا فلسفية تكشف أن أبسط تفاصيلنا الداخلية، المخفية أحيانًا، هي ما يعكس أعظم الحقائق. في هذا المعنى، يظهر فن التعامل مع الآخرين ليس كمهارة اجتماعية سطحية، بل كممارسة وجودية تكشف قدرة الإنسان على العبور إلى الآخر، لا بالكلمات وحدها، بل بالصمت والإصغاء والتعاطف. إنه يشبه الاقتراب من الآخر بفكر صافي وقلب مفتوح، مستعدًا للإصغاء قبل الكلام، والتواضع قبل السؤال، والمودّة قبل الجدال. هنا يصبح التعامل مع الآخرين مقامًا أخلاقيًا وفلسفيًا، وليس مجرد وسيلة دنيوية. كما قال الجنيد: طريقنا كله أدب.
الفلسفة تضيء هذا المعنى بعمقها: سقراط رأى أن الحكمة لا تُكتسب إلا من خلال الحوار، وأن الإنسان لا يبلغ الحقيقة إلا بمساءلة ذاته والآخرين. أرسطو أكد أن الإنسان “حيوان اجتماعي”، وأن إنسانيته لا تكتمل إلا في إطار المجتمع، فالمعنى لا يُبنى في عزلة بل في شبكة العلاقات. أما مارتن بوبر فقد وضع العلاقة بين “الأنا” و”الأنت” كأساس لكل وجود حقيقي، حيث لا تكتشف الذات إلا من خلال حضور الآخر، ويصبح اللقاء مساحة صادقة للحضور الإنساني.
قصص الصوفيّة تؤكد أنّ إدارة الخلاف ليست مجرد سياسة اجتماعية، بل ممارسة لمجاهدة النفس وتربية القلب. فقد رُوي عن إبراهيم بن أدهم أنّ رجلاً شتمه في مجلس عام، فابتسم وقال: غنيمة ساقها الله إليّ تكفّر عن ذنوبي. هذا الموقف لم يكن ضعفًا، بل بصيرة قلبية حولت الإساءة إلى طهر، والعداوة إلى فرصة للصفح، والصراع إلى مرقاة نحو الصفاء.
في منظور العارفين، البشر ليسوا خصومًا ولا منافسين، بل مرايا تكشف حقيقة الذات. من خلالهم يُختبر صبر الإنسان، وتُقاس طاقته على الاحتمال، وكلما أدار اختلافه معهم بصدق ورحمة، ارتقى في سلم المعرفة، ليس فقط أمام الناس، بل في مقامه الباطني حيث تنكشف أسرار القلب.
الفلسفة والروحانية تتقاطعان هنا: الحياة ليست مجرد صراع للبقاء كما قال هوبز، وليست فقط إرادة قوة كما أراد نيتشه، بل هي مجال أخلاقي تتجلّى فيه اختبارات الروح. كل موقف يفرض سؤالًا: هل نختار أن نكون جسورًا أم جدرانًا؟ هل نرى الآخر كمرآة للذات، أم كتهديد؟ هكذا يصبح وجود الإنسان مشروعًا أخلاقيًا، يُقاس بما يتركه من أثر في قلوب الآخرين لا بما يملك أو ينتزع.
في النهاية، يصبح فن العبور إلى الآخرين شكلًا من التصوّف العملي والفلسفة الحيّة معًا، رحلةً يكشف فيها الإنسان أن كل لقاء امتحان، وكل خلاف فرصة، وكل إنسان آية. كما قال ابن عربي: الطريق إلى الله يمر عبر وجوه الناس. فلا يمكن للروح أن تبلغ كمالها في عزلة، إذ في حضرة الآخرين تُصاغ القيم، وتُصفّى المشاعر، ويُكتب المعنى الأخير للحياة، بينما تتردد في الظل كلمات الفيتوري، تهمس بأن أعظم ما فينا قد يعلو على كل ما يُرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة