في خضم الحرب الدائرة في السودان، تسربت مؤخرًا أنباء عن مقترح أميركي جديد دُفع إلى رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان عبر مستشار للرئيس الأميركي دونالد ترامب في لقاء جرى بمدينة زيورخ أغسطس الجاري. وبالنظر إلى ما رشح من تفاصيل، يبدو أن المقترح لا يعدو أن يكون نسخة معدلة من الاتفاق الإطاري الأول، الذي كان أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الراهنة، بعد أن أدى إلى شرخ عميق في المشهد السياسي والعسكري عبر تحريض قوى «الحرية والتغيير» «قحت» لقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لمواجهة الجيش والتمرد عليه وإغرائه برئاسة البلاد إن نجح انقلابه.
والاتفاق الإطاري، الذي أشرف عليه المبعوث الأممي فولكر بيرتس أواخر عام 2022، جاء كترتيب انتقالي لإعادة السلطة لقوى مدنية بقيادة «قحت»، مع وعود بدمج الدعم السريع في الجيش وإبعاد التيارات الإسلامية من المشهد. لكنه لم يحظَ بتوافق وطني واسع، بل عُدّ من قبل معارضيه مدخلاً لإعادة إنتاج الأزمة وتعميق الانقسامات.
منذ البداية، ظلّت الرؤية الأميركية–كما يقرأها كثيرون – منحازة إلى تمكين «قحت» وإقصاء أي قوى سياسية أو مدنية أخرى من المشهد، في عملية انتقائية لا تعكس واقع التعدد السوداني ولا توازناته. وها هو المقترح الجديد يؤكد الاتجاه ذاته، إذ يتمحور حول إبعاد التيارات الإسلامية تحت شعار «الانتقال الديمقراطي»، في وقت يتم فيه إعادة تأهيل مليشيا الدعم السريع أو دمجها تحت لافتة «هيكلة الجيش»، بحيث تتحوَّل إلى قوة موازية تحدّ من نفوذ الجيش، وتُقلم أظافر قيادته الحالية، وعلى رأسها البرهان.
إن عودة «قحت» إلى الحكم – كما يخطط الأميركيون – تعني عمليا استدعاء التجربة السابقة بكل علّاتها. ف«قحت» خلال فترة حكمها حيث ترأس عبد حمدوك رئاسة مجلس الوزراء، ارتبطت كثيرا بالدعم الخارجي، سواء من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو البنك الدولي. غير أن ما تلقته كان في الغالب وعودا أكثر من أفعال ملموسة، ولما انكشفت أكذوبة الدعم الخارجي تبين مدى هشاشة تجربة حكم «قحت».
لقد أفقدت «قحت» الدولة هيبتها لأنها اعتمدت على «شرعية ثورية» غير مؤسسية، وسط اقتصاد منهار وشراكة مشوهة مع الجيش. وبدت عاجزة عن ضبط الشارع أو إدارة الدولة بفعالية. لقد اعتمدت على «شرعية ناعمة» قوامها الثورة والدعم الدولي، لكن من دون تحويلها إلى مؤسسات صلبة مثل تشكيل البرلمان المؤقت والمحكمة الدستورية ومفوضية الانتخابات، سرعان ما تهاوت أمام الأزمات المتلاحقة.
هذه الدروس تجعل المخطط الأميركي الجديد مثيرًا للقلق: لأنه لا يعد فقط بإعادة إنتاج الأزمة، بل بتكرار الأمراض نفسها التي جرّبتها البلاد وفشلت فيها.
ولا يمكن قراءة هذه التحركات بمعزل عن الاستراتيجية الأميركية في الإقليم. فمنذ سقوط نظام البشير، ظلّ الهم الأميركي منصبا على منع روسيا وتركيا من ترسيخ نفوذهما في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، مع توظيف ورقة «الديمقراطية وحقوق الإنسان» كمدخل لإعادة صياغة التوازنات الداخلية.
المقترح الجديد يمنح مليشيا الدعم السريع وضعية خاصة، إما بالإبقاء عليها كقوة شبه مستقلة أو عبر دمجها بطريقة تحفظ لها نفوذًا داخل القوات المسلحة. هذا التوجه يحمل في طياته خطورة مزدوجة: فمن ناحية، يعني شرعنة مليشيا ارتبط اسمها بجرائم واسعة بحق المدنيين؛ ومن ناحية أخرى، يمثل تكريسا لمعادلة «جيش موازٍ» تضعف سلطة الدولة وتفتح الباب لمزيد من الفوضى.
بل إن مجرد قبول البرهان بمناقشة وضع هذه المليشيا – سواء كقوة موازية أو مدمجة – يعني عمليا تعطيل جهود أميركية داخلية كانت تدفع في اتجاه تصنيفها منظمة إرهابية. وهكذا يصبح «الحل المقترح» غطاء لشرعنة المليشيا لا لمحاسبتها، وإعادة تدويرها كفاعل شرعي في العملية السياسية حتى لو غلف ذلك بمحاسبة المتورطين في جرائم الحرب.
إن محاولة إعادة حميدتي أو أي من بقايا منظومته العسكرية إلى المشهد السياسي–الأمني تحت غطاء «الإصلاح الأمني والعسكري» ليست سوى إحياء لبذور الحرب نفسها، لأن الجيش لن يقبل، من حيث المبدأ، أن يُفرض عليه منافس مسلح يشارك في قراراته السيادية.
تنفيذ هذا المخطط سيعني، عمليا، تجريد القيادة العسكرية الحالية من قدرتها على السيطرة الكاملة على الدولة، وتحويلها إلى مجرد طرف في معادلة تهيمن عليها «قحت» وحلفاؤها الدوليون. وهو ما قد يضع البرهان في موقف بالغ الصعوبة: إما القبول بدور محدود تحت غطاء «الانتقال الديمقراطي»، أو مواجهة عزلة وضغوط متزايدة.
لكن الجيش، بحكم تراكم الخبرات والتجارب، يدرك أن مثل هذا المسار لا يقود إلى استقرار ولا إلى بناء مؤسسات، بل إلى مزيد من الانقسامات والارتهان للخارج.
المقترح الأميركي الجديد ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج الأزمة عبر إعادة تدوير الاتفاق الإطاري الأول، مع تعديلات شكلية لا تمس جوهر المشكلة. إنه مشروع لإقصاء تيارات رئيسية من المجتمع السوداني، وتمكين قوى بعينها، وإعادة إدخال مليشيا الدعم السريع إلى المشهد، وكل ذلك تحت لافتة «الانتقال الديمقراطي».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة