كانت الساحة الضيقة التي تتوسط الحارة تكتظ كل مساء بالرجال. المقاعد البلاستيكية والخشبية المتهالكة تصطف في شبه دائرة؛ فيما تلقي الأضواء الصفراء الخافتة ظلالًا متكسرة على الوجوه المنهكة. في الوسط يقف "عبده الثرثار" بقامته الطويلة ويديه اللتين لا تكفان عن الحراك؛ لا يكل ولا يمل من رفع صوته الجهوري حتى يُخيَّل للمرء أن حبال حنجرته من فولاذ. يلوح بيديه، ويرمي الكلام على عواهنه، فتتلقفه الجموع بآذانها قبل عقولها.
وفي ركن قصي من الساحة، جلس محمود على كرسي بلاستيكي متهالك، مستندًا إلى حائط ذهب معظم طلائه. كان غارقًا في صمت كأنه في عالم آخر، لا يمت بصلة إلى ما يحيط به من صخب وضجيج، متابعًا بنظراته المسرح الهزلي الذي تتخلله ضحكات هستيرية، وأجساد تهتز من النشوة. لم يكن يهوى الكلام الكثير، ولا يجيد منافسة الأصوات العالية، لكنه كان يحمل في داخله ما هو أقيم من الثرثرة والضجيج: قول فصل، وفكرة صائبة، وكلام موزون.
في غمرة الهرج والمرج، اعتدل "عبده الثرثار" في وقفته، ومسح الحضور بنظرة فاحصة، وألبس وجهه قناع الجدية، ولوح بيديه كمن يكتشف سرًا عظيمًا، ثم صاح بصوته الجهوري الذي يخترق الآذان قبل العقول: ــ «ألا تفكرون؟ تنقصنا هنا مظلة ضخمة، تحجب عنا الشمس، وترد عنا المطر، وتجمعنا تحت ظل واحد!»
اهتزت الساحة بهدير التصفيقات، وتعالت الهتافات المؤيدة، حتى خُيِّل أن الفكرة نزلت من السماء وحيًا. شرع الجميع في رسم صورة زاهية لشكل المظلة؛ حجمها وألوانها، وكيف ستحيل حياتهم من الشقاء إلى النعيم.
لم يلتفت أحد إلى محمود، الذي اكتفى بابتسامة هادئة، ثم قال بصوت بالكاد يُسمع: ــ «لكن… أليست المجاري أهم وأولى؟ فالماء إذا غطى الساحة فلن تنفعكم مظلة.»
تلاشت كلماته في الفراغ، وتبددت في حينها، بينما كان التصفيق والضحك يزدادان.
ولم يمض أسبوعان، حتى أنفقوا ما جمعوه على شراء الحديد والقماش والطلاء. وفي غضون أيام قلائل هطلت أولى زخات المطر، فانسابت السيول شلالًا في الطرقات، وغرقت الساحة نفسها بالماء، فيما المظلة الجديدة تقف منتصبة، لكنها بلا فائدة، كهيكل أصم وسط ماء آسن.
وحين سكت المطر، عاد "عبده الثرثار" ليرفع صوته، كأن شيئًا لم يكن… غير أن المقاعد الموحلة لم تجد من يصفق. وحينها أدركوا أن الصوت العالي لا يجفف الطين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة