كيف يتحول موت مقاتل إلى مرآة تعكس عمق الانقسامات التاريخية التي تمزق نسيج الأمة السودانية؟
لم يكن مقتل القائد الميداني "مهند أولاً" من قوات البراء بن مالك التابعة للحركة الإسلامية مجرد خبر عابر في سير الحرب المستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. لقد كان بمثابة حجر أُلقي في بركة راكدة، فكشف من خلال ردود الفعل المنقسمة عنه عمق الهوّة الاجتماعية التي تمزق نسيج البلاد. متى تتحول جثة مقاتل إلى مرآة لأمة بأكملها؟ الإجابة تكمن في ذلك الانقسام الصارخ الذي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يجري في السودان هو حرب أهلية بكل ما في الكلمة من معنى. فمن جانب، رأى كثيرون في مصرع "مهند" جزاءً عادلاً لمشاركته المزعومة في فض اعتصام القيادة العامة عام 2019، تلك الجريمة التي لا تندمل جراحها حتى اليوم. بينما اندفع آخرون، من الموالين للجيش وميليشياته المساندة، للدفاع عنه واعتباره "شهيداً"، ورفضوا أي حديث سلبي عنه. هذا الانقسام الحاد ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية طويلة، وجذرته آلة سياسية تعمل منذ عقود. لقد سعت قوى "الكيزان" (نخبة النظام البائد) طوال فترة حكمها إلى خلق وتعميق هذه الفجوات الاجتماعية، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة تضليل جزء كبير من المجتمع بأن هذه الحرب هي مواجهة مع عدو خارجي، لا صراع على السلطة والنفوذ والموارد بين نخب داخلية. كل الأدلة على الأرض، من طبيعة القتال إلى الخطاب الإعلامي المتحيز، تؤكد الطابع الأهلي لهذا الصراع، والاعتراف بهذه الحقيقة المرة هو أول وأصعب خطوات السلام. ولفهم جذور هذا الانقسام، يجب العودة بالتاريخ إلى الوراء، ليس فقط إلى ثلاثين عاماً من حكم الإسلاميين. كما يُفصِّل المفكر الدكتور النور حمد في تحليله التاريخي، مشيراً إلى أن جذور الأزمة تعود إلى ما قبل الاستعمار بقرون، حيث يقول: "إن الغزو التركي في السودان قبل أكثر من ٢٠٠ سنة عمل على بناء انقسامات اجتماعية كانت سبباً في الخلل الحالي". هذه البنى الاجتماعية-الاقتصادية الهرمية الاستغلالية هي التي ورثتها واستثمرتها فيما بعد النخب الحاكمة ببراعة لضمان استمرارها. وقد انعكست هذه الانقسامات بوضوح على موقف المواطن العادي من الحرب.في بداية الحرب بدأ الأمر بدعوات محايدة من كثير من السودانيين تترحم على الجميع وتدعو بـ "كيدهم في نحرهم"، أملاً في أن يتلاشى الطرفان المنخرطان في حرب إبادة. لكن هذا الحياد بدأ يتراجع مع استمرار القتال واتساع رقعة المعاناة، لتحل محله مواقع أكثر وضوحاً: مؤيد للجيش، مؤيد للدعم السريع، ومحايد يرى أن استمرار الحرب هو كارثة إنسانية بحد ذاتها، بغض النظر عن المنتصر. والخطر الأكبر الآن هو انتقال المعارك إلى مناطق كردفان ودارفور، حيث يُخشى أن تلبس الحرب ثوباً قبلياً فتتحول إلى حرب إثنية عرقية شاملة، تكرّس انتهاكات مروعة يصعب وقفها. ولسوء الحظ، فإن "الكيزان" وأذرعهم ما زالوا يمتلكون أدوات التلاعب بهذه الانقسامات والتحكم فيها، مستخدمين الخطاب العرقي والديني لتحقيق مصالحهم الحزبية الضيقة وإطالة أمد الحرب. خلاصة القول، إن جثة القائد "مهند" هي مرآة لمجتمع منهك. إن الاعتراف بأن هذه حرب أهلية، والبحث في جذورها التاريخية العميقة التي استغلها الإسلام السياسي، وتحمل المسؤولية الجماعية عن إيقافها، هو الطريق الوحيد لإنقاذ ما تبقى من السودان. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن أن تلتقي نخب السودان على شيء كما التقت على إشعال ناره؟ فالعبرة ليست في من يموت، بل في لماذا يموت، وكيف يمكن أن نتوقف أخيراً عن إنتاج أسباب الموت
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة