الرد على محاولات الاستهبال والتشويش في مقاله المنشور على موقع سودانيز أونلاين بتاريخ 20 أغسطس 2025 بعنوان: "هل العلمانية منتج أم عملية لمنتج؟ (product or process)" حاول د. عبد الله علي إبراهيم أن يقدّم مرافعة ظاهرها التحليل وباطنها التعمية. المقال جاء محشوًا بالطرائف البايخة والاستعارات، بدءًا من إيراد أخبار عن قاضٍ في تكساس أمر بتعليق "الوصايا العشر" في المدارس، مرورًا بإشارات إلى محاولات مماثلة في ولايات أمريكية جنوبية مثل ألاباما، وصولًا إلى خلاصة تقول إن العلمانية ليست "منتجًا قابضًا باليد"، وإنما عملية متنازعة (contested process) تتأرجح بين الأخذ والرد، المكسب والخسارة! يمكن تلخيص ما ذهب إليه د. عبد الله في ثلاث نقاط رئيسية: - العلمانية ليست مبدأ ثابتًا بل ساحة نزاع مستمرة؛ طرف يخسر اليوم ليكسب غدًا - الوقائع الأمريكية مثال على ذلك، حيث تُطرح بين الحين والآخر مبادرات "دينية" (مثل تعليق الوصايا العشر) في مؤسسات الدولة، وكأنها نكتة تتحول إلى أمر واقع. - مطلب عبد العزيز الحلو بالعلمانية "قبض إيد" وبأن تكون مادة فوق دستورية هو، بحسب د. عبد الله، هروب إلى "ترف" في كاودا، وتجاهل لوعثاء الصراع ونكساته. لكن هذه الخلاصة، التي يتصورها د. عبد الله مرافعة فكرية، ليست في حقيقتها سوى إعادة إنتاج لأسلوبه المعهود في الاستهبال والتشويش: خلط الوقائع بالطرائف السخيفة، واستعمال أمثلة مبتسرة، ثم الانتهاء باستنتاج بائس يخدم استمرارية الدولة الثيوقراطية التي لم تُنتج للسودان عبر تاريخه سوى القهر، والإقصاء، والاستبداد. العلمانية، خلافًا لما يحاول تسويقه، ليست "منتجًا هلاميًا" أو "عملية لا تنتهي"، بل هي شرط بنيوي ثابت للمواطنة المتساوية. وأي محاولة لتصويرها كمجرد نزاع سياسي قابل للأخذ والرد، ما هي إلا التفاف على جوهرها الفلسفي والسياسي: ضمان الحرية، المساواة، والعدالة.
العلمانية والمواطنة: لا مساواة بلا فصل الدين عن الدولة: لنُحطِّم هذا التمويه أولاً: لا توجد مواطنة متساوية على وجه الأرض دون علمانية. لا في السودان، لا في أمريكا، ولا حتى في المريخ. أي درجة من الدولة الدينية، وأي شكل من الثيوقراطية، يعني بالضرورة إقصاء إنسان ما، وحرمانه من حقه الكامل في المساواة أمام القانون. التاريخ والفلسفة والسياسة تقول بوضوح: العلمانية ليست خيارًا تجميليًا، بل هي شرط وجود الدولة العادلة.
مثال "الوصايا العشر" في مدارس تكساس: كيف انتصرت العلمانية؟ المثال الوحيد الذي حاول د. عبد الله علي إبراهيم أن يستند إليه – مسألة تعليق الوصايا العشر في مدارس ولاية تكساس – ينهار أمام أي قراءة دقيقة وامينه، بل يتحول إلى دليل ضد حجته، ولنثبت هذا: الوصايا العشر المقصودة، وهي نصوص توراتية - موسوية تشمل أوامر ونواهٍ دينية مثل: - لا يكن لك آلهة أخرى أمامي - لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا - لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا - اذكر يوم السبت لتقدسه - أكرم أباك وأمك - لا تقتل - تزن - لا تسرق - لا تشهد بالزور - لا تشتهِ امرأة قريبك ولا بيته.
هذه الوصايا، بما تحمله من مضامين دينية محضة، قرر برلمان ولاية تكساس عام 2023 أن تُعلّق في كل فصل دراسي "حفاظًا على القيم". وهنا بالضبط تتجلى قوة العلمانية: - رفع أولياء الأمور والناشطون دعوى قضائية ضد القرار، مستندين إلى التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي يمنع الدولة من سن قوانين "تؤسس لدين أو تمنع ممارسته." - المحاكم الفيدرالية تدخلت فورًا وأكدت أن الدولة لا يحق لها فرض عقيدة دينية بعينها على الطلاب، ولا حتى من خلال "نصائح أخلاقية" ذات أصل ديني. - تم تعليق القرار وإلزام البرلمان بالتراجع، وهو انتصار واضح وصريح لمبدأ الفصل بين الدين والدولة.
ما الذي يخبرنا هذا المثال؟ - أن الصراع موجود، نعم، لكن ضمن مرجعية علمانية ثابتة، لا يستطيع أي مشرّع أو قاضٍ أن يتجاوزها. - أن العلمانية ليست "وهمًا" أو "منتجًا عائمًا" كما يوحي د. عبد الله، بل هي بنية دستورية راسخة تحمي الحقوق وتصون المساواة. - أن كل محاولة لفرض الدين على الدولة في أمريكا – من الوصايا العشر إلى فرض الصلوات – تصطدم بجدار العلمانية وتنتهي بالفشل.
التزوير والاحتيال: حيلة النخب السودانية لكن د. عبد الله، وكعادة النخب السودانية في الاحتيال، قلب المثال رأسًا على عقب. بدلاً من الاعتراف بانتصار العلمانية، صوّر الأمر كأنها هشة، "لا تُقبض باليد." - تجاهل النتيجة النهائية: أن المحكمة أبطلت القانون وأكدت قدسية العلمانية كإطار ناظم للمواطنة. - حاول إيهام القارئ بأن أمريكا "تتهاوى" أمام الدين، بينما الحقيقة أن حتى أكثر المحافظين تشددًا لم يجرؤوا على القول إن أمريكا دولة مسيحية، لأن النظام العلماني يمنعهم. - هذا هو التزوير بعينه: أخذ واقعة تُثبت رسوخ العلمانية وتحويلها إلى دليل على عكسها، بالكذب والتشويش.
النتيجة: العلمانية تنتصر دائمًا التاريخ الدستوري في أمريكا، كما في فرنسا والهند وجنوب إفريقيا، يثبت أن العلمانية ليست "قضية متنازعًا عليها" من حيث الجوهر، بل هي القاعدة التي يُدار في داخلها النزاع: - في أمريكا، لا يجرؤ أحد أن يعلن دينًا رسميًا للدولة - في فرنسا، العلمانية هي حجر الزاوية للجمهورية - في الهند، رغم الطائفية، تبقى العلمانية الضامن الدستوري لوحدة بلد يضم مئات الديانات والطوائف - في جنوب إفريقيا، كان الدستور العلماني السبيل الوحيد لإنهاء الأبارتهايد وإقرار المواطنة المتساوية إذن: الصراع قائم، لكنه صراع تحت سقف العلمانية، لا تحت سوط دولة دينية تفرض عقيدة بعينها. وهنا يكمن الفرق الجوهري الذي يحاول د. عبد الله أن يطمسه عبر التزوير.
مشكلة النخب، نموزج د. عبد الله أنه، رغم تراكم فشله الفكري والسياسي، لا يزال يعتقد أنه يملك صكوك المستقبل وأنه يستطيع التحكم في مساره وفق إداراته القديمة، وأفكاره المخرومة. الحظوة التي اعتادها قد انهارت، وها هو اليوم يحاول أن يموّه ذلك بنكتة هنا أو "استشهاد" هناك. لكن الحقيقة أن الزمن تجاوزه، وأن صناعة مستقبل السودان اليوم تجري خارج يده، في مشروع السودان الجديد القادم عبر تاسيس، لا في أوهام الماضي.
العلمانية اليوم: من الهامش إلى لسان كل مواطن ما لا يستطيع د. عبد الله هضمه هو أن العلمانية اليوم أصبحت على لسان كل مواطن سوداني. ليست حكراً على عبد العزيز الحلو أو الحركة الشعبية، بل مطلب جماهيري تردده الساحات، وتعيشه الأجيال الجديدة بوصفه المدخل الوحيد للمواطنة المتساوية. وهذا تم دون إذن من النخب المترددة، ودون استئذان من "شيوخ" المعارضة المتكلسة، ومن بينهم د. عبد الله علي إبراهيم.
اخيرا: في تفوّق الحجة على التشويش إنّ محاولات د. عبد الله علي إبراهيم للاستخفاف بالعلمانية لا تعدو كونها امتدادًا لموقفٍ مأزومٍ فقد القدرة على التفاعل مع التاريخ الحيّ. فحين تعجز النخب عن مواجهة التحولات العميقة التي يفرضها الواقع، لا تجد سوى ملاذ السخرية والتشويش وتحوير الوقائع. غير أنّ هذه المناورات، مهما تنوعت، تصطدم بحقيقة لا يمكن إنكارها: العلمانية ليست طرفًا في جدل فكري عابر، بل شرط وجودي للمواطنة المتساوية وأفق حتمي لبناء الدولة الحديثة. الشعب السوداني، عبر حركته الثورية ومشروع السودان الجديد، و تأسيس مؤخرا، لم يترك هذا المبدأ في حيّز الجدل العقيم؛ بل دفع ثمنه دمًا وتضحيات، وجعل منه حجر الأساس لوثائق مبادئ فوق دستورية، تصوغ مسارًا جديدًا للتاريخ السوداني. هذه الوثائق لم تُكتب في مقاعد الرفاهة ولا في مقالات الهروب إلى النكات السمجة، بل في ميادين القتال، في صبر الأمهات، وفي أصوات المهمشين الذين أدركوا أن لا حرية ولا عدالة من دون علمانية. وهنا يكمن الفارق الجوهري: بين من يتمسّك بماضٍ مهترئ، يظن أن له وحده حق توزيع شهادات الشرعية، وبين من يصنع المستقبل برؤية علمانية واضحة، قائمة على المساواة التامة بين جميع المواطنين. العلمانية لم تعد خيارًا ينتظر "إجازة" من مثقفٍ أو حزب، بل صارت واقعًا في الوعي الجمعي السوداني، ومطلبًا تتقدمه الحركة الشعبية ومعها كل قوى التغيير الجذري الحقيقية. إنّ التاريخ لا يُصنع بالنكات ولا بالتشويش، بل بمبادئ تتجذّر وتتحول إلى مشروع. والعلمانية اليوم ليست جدلًا فكريًا يلوكه المترددون، بل هي المسار الذي يفرضه منطق العدالة والتاريخ. ومن هنا، فإن محاولات الاحتيال على هذا المعطى لا تزيد أصحابها إلا عزلة، فيما تتقدم قوى السودان الجديد بخطى واثقة نحو المستقبل.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة