بين بيكاسو ونيرودا وماركيز- اللغة والارتزاق وتهافت كامل إدريس في قراءة التاريخ كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-04-2025, 11:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-19-2025, 07:51 PM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 135

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بين بيكاسو ونيرودا وماركيز- اللغة والارتزاق وتهافت كامل إدريس في قراءة التاريخ كتبه خالد كودي

    07:51 PM August, 19 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر




    أولاً: اللغة ليست أفقاً موحِّداً للشعوب:
    في 16 أغسطس/آب 2025، وجّه رئيس وزراء سلطة بورتسودان، كامل إدريس، خطاباً إلى الدول الناطقة بالإسبانية - من كولومبيا إلى كوبا، مروراً بتشيلي وإسبانيا - بأسماء كبرى مثل بابلو بيكاسو، بابلو نيرودا، غابرييل غارسيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسا. هدف إدريس من خطابه أن يُثبت أنّ الشعوب التي تشترك في اللغة الإسبانية قدّمت للعالم إرثاً أدبياً وفنياً رفيعاً، وبنى على ذلك دعوته إلى كولومبيا كي تمنع مواطنيها، وفق زعمه، من الارتزاق في صفوف قوات الدعم السريع!
    غير أنّ هذا الاستدلال يقوم على افتراض هش ومضلِّل، إذ يتجاهل حقيقة بديهية في تاريخ الفكر: اللغة لا تشكّل أفقاً موحِّداً للشعوب، ولا تضمن حصانةً ضد الاستبداد أو الارتزاق. بل إنّ الأسماء التي استشهد بها إدريس كانت في جوهرها أصواتاً مناهضة للأنظمة القمعية والديكتاتوريات التي مثّلت الوجه الآخر لما يخدمه كامل إدريس نفسه اليوم! فـنيرودا لم يكن شاعر حبّ فقط، بل شاعر مقاومة ضد الفاشية الإسبانية والاستبداد في تشيلي. وماركيز جعل من أعماله، من خريف البطريرك إلى ليس لدى الكولونيل من يكاتبه صرخة ضد الطغيان العسكري. أما بيكاسو، فقد حوّل لوحته "غيرنيكا" إلى أيقونة بصرية ضد الحرب الأهلية والاستبداد، فيما كرّس فارغاس يوسا جانباً كبيراً من جهده النقدي لفضح السلطويات في أميركا اللاتينية. إن استدعاء هذه الرموز لا يمنح كامل إدريس ادني شرعية، بل يفضحه أكثر: لأنهم لو كانوا أحياء لوقفوا في وجه نفس النظام الذي وظفه ويخدمه!
    ثم إنّ مقاربته قائمة على سذاجة معرفية وضعف إدراك تاريخي، فهو يفترض أن اللغة المشتركة تشكّل وحدة وجدانية وتاريخية للشعوب، بينما الواقع التاريخي يبرهن العكس. فاللغة الإسبانية، التي قدّمها إدريس كجسر جامع، لم تُولد في أميركا اللاتينية كلغة هوية، بل فُرضت بالقوة كأداة استعمارية، همّشت لغات أصيلة مثل الكيشوا والناهوا والمابوتشي، وغيرها وأقصت هويات الكثير من الشعوب الأصيلة. حتى اليوم، لا يزال ملايين من سكان القارة يرون الإسبانية لغة هيمنة لا لغة انتماء ووحدة قيم، فكيف يزعم إدريس أنّها تشكّل قاعدة وجدانية عابرة للتاريخ والسياسة؟
    إنّ هذا الخطاب ليس أكثر من محاولة تسييس للثقافة وتوظيف انتقائي للرموز، يهدف إلى إضفاء غطاء أخلاقي على موقعٍ سياسي هش. هو خطاب استعراضي يتغافل عن أعماق التاريخ والثقافة، ويتعامل مع اللغة بوصفها زينة سطحية لا بوصفها وعاءً لتجارب المقاومة والهيمنة معاً. المفارقة أنّ إدريس، وهو يستدعي الإسبانية ورموزها، إنما يكشف عن انفصام بنيوي: يريد أن يتزيّن بأسماء الكبار، لكنه يغفل أنّ هؤلاء الكبار جعلوا من أعمالهم محاكمةً للتسلط والدموية التي يجد نفسه اليوم متكئاً عليها.
    وعليه، فإنّ خطاب إدريس لا يُظهر انفتاحاً ثقافياً، بل عجزاً معرفياً وافتقاراً إلى الحساسية التاريخية، بل ويؤكد أنّ دمية العسكر، مهما استعارت من لغات ورموز، تبقى محكومة بحدود مسرحها المظلم.

    ثانياً: الارتزاق بين كولومبيا والسودان – مقارنة في الجوهر والبنية:
    من المفارقة الفاضحة أن يستشهد كامل إدريس، رئيس وزراء سلطة بورتسودان الخاضعة لحكم عسكري ديكتاتوري، بتجربة كولومبيا في سياق حديثه عن المرتزقة، في وقت تدعي فيه تقارير متفرقة وجود مقاتلين كولومبيين إلى جانب قوات الدعم السريع في السودان. لكن أي مقارنة متأنية بين التجربتين تكشف تبايناً بنيوياً لا يمكن إخفاؤه.
    في كولومبيا، يظل "الارتزاق" ممارسة فردية معزولة، غالباً عبر شركات أمنية خاصة عابرة للحدود، بلا غطاء رسمي أو شرعية سياسية. إنها ظاهرة هامشية في اقتصاد الحرب، لا ترقى إلى مستوى سياسة دولة.
    أما في السودان، فقد أصبح الارتزاق سياسة دولة مؤسساتية راسخة. فمنذ عهد البشير، أُرسل عشرات الآلاف من الجنود السودانيين إلى حرب اليمن - وهي حرب لا شأن وطني للسودان بها - مقابل تمويل سعودي - إماراتي وتحت غطاء رسمي سياسي وعسكري. لم يكن ذلك انحرافاً فردياً، بل قراراً ممنهجاً حوّل الجيش السوداني إلى قوة مأجورة في خدمة مصالح الآخرين. الأخطر أنّ هذا القرار لم يكن من صنع المؤسسة العسكرية وحدها، بل جرى تمريره برضا النخب السياسية، وصمت قادة الرأي، ومباركة الكثير من رموز المجتمع، ما عرّى تفريغ الجيش من وظيفته الوطنية وحوّله إلى أداة مأجورة باسم الدولة، قبل أن يعود سلاحه ليرتدّ على الداخل!
    ويصدق هنا المثل الإنجليزي:
    “What goes around comes around”

    والجيش الذي أُرسل بالأمس ليقاتل في اليمن يواصل اليوم مهمته المأجورة في الداخل: يقصف مدن السودان وقراه من دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى الخرطوم. أولئك الذين صمتوا أو برّروا بيع دماء الجنود في الخارج يواجهون اليوم النتائج نفسها وقد ارتدت عليهم؛ جيش مأجور تحوّل إلى أداة قمع وإبادة لشعبه.
    الجذور التاريخية للارتزاق في السودان:
    هذه الظاهرة لا تقتصر على حرب اليمن، بل تمتد جذورها إلى تاريخ الجيش السوداني منذ الحقبة الاستعمارية، حين جرى استخدام الجنود السودانيين في حروب بعيدة - من الهند إلى المكسيك وبورما وإريتريا - خدمة لمصالح الإمبراطورية البريطانية لا لمصالح وطنهم. وبعد الاستقلال، لم يتحول الجيش إلى مؤسسة وطنية، بل ظل أداة بيد النخب الحاكمة لقمع التمردات الداخلية وإدارة الحروب الأهلية. رفع الجيش علم الدولة، لكنه لم يكن يوماً جيش الشعب، بل جيشاً مأجوراً تُسوَّق تاريخه على أنه “بطولات” في حروب لا تخص السودان.
    الارتزاق الفردي مقابل الارتزاق المؤسسي:
    ما يُسمّى "الارتزاق الكولومبي" يبقى ممارسة فردية محدودة وغير شرعية قانونياً أو سياسياً. أما في السودان، فالارتزاق مؤسسي وشرعيته مستمدة من الدولة نفسها: إرسال رسمي للجنود مقابل الأموال، مع الاستمرار في استخدام الجيش كأداة إبادة داخلية. الفارق هنا بين أفراد معزولين ودولة كاملة سلّعت دماء أبنائها!!
    البعد الأخلاقي والقانوني والسياسي:
    هذا التباين يُسقط أي مقارنة ساقها كامل إدريس. فالممارسة الفردية في كولومبيا لا تُقارن بتجربة السودان حيث تحوّل الجيش إلى مؤسسة ارتزاق رسمية. أخلاقياً، الدولة التي تسمسر بدماء أبنائها وتحوّل جيشها إلى أداة للقمع والخدمة الخارجية فاقدة لشرعيتها السياسية والأخلاقية. قانونياً، هذا خرق لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة المرتزقة (1989) والقانون الدولي الإنساني. سياسياً، هو إعلان انهيار العقد الاجتماعي وتحويل الجيش من مؤسسة وطنية إلى أداة مأجورة ضد الداخل
    والخارج معاً.
    مفارقة كامل إدريس: تبييض جيش المرتزقة وإدانة الآخرين:
    أفدح المفارقات أن يرأس كامل إدريس حكومة تابعة لسلطة عسكرية ديكتاتورية واصلت في تحوّيل الجيش السوداني علناً إلى جيش مرتزقة، ثم يرفع عقيرته لمجرّد الحديث عن أفراد كولومبيين يقاتلون في السودان! أي وجه أخلاقي لحكومة صمتت عقوداً على حقيقة أنّ جيشها يُباع في أسواق الحروب برعاية الدولة، ثم تجعل من حالات فردية معزولة ذريعة للتطاول علي الشعوب ولإدانة الآخرين؟
    من خلال المقارنة بين تقارير متناثرة عن "أفراد مرتزقة" يقاتلون في السودان وبين واقع الارتزاق المؤسسي الذي تبناه الجيش السوداني برعاية الدولة، ينكشف فراغ الحجة الأخلاقية لكامل إدريس وتهافت منطقه. فخطابه إلى الخارج لا يعدو أن يكون تزييفاً للوعي وتبييضاً لتاريخ مثقل بالارتزاق البنيوي والقمع الداخلي، في محاولة عقيمة لتحويل اللوم إلى الآخرين بينما الجريمة راسخة في صميم تاريخ الجيش السوداني نفسه.

    ثالثا: بين فرانكو والبرهان – المقاربة التاريخية:
    - إذا كان كامل إدريس قد أراد أن يخاطب الإسبان واللاتينيين مستشهداً بتاريخهم، فالأجدر به أن يقرأ ذلك التاريخ بعناية قبل أن يستعمله كشاهد في خطابه. فالجنرال فرانشيسكو فرانكو، الذي حكم إسبانيا بعد حرب أهلية مدمّرة (1936–1939)، لم يكن سوى نموذج للدكتاتور العسكري الذي يختزل الوطن في ذاته. بنى سلطته على مجازر ممنهجة، قصف للمدن والقرى، سحق للمعارضين، وإعدام للفنانين والمثقفين، حتى أصبحت إسبانيا تحت حكمه رمزاً للفاشية الأوروبية!!
    - في المقابل، يمارس الجنرال عبد الفتاح البرهان في السودان الدور نفسه وإن اختلفت الجغرافيا. فقد حوّل الجيش إلى أداة قتل جماعي ضد المواطنين، يقصف القرى في جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق، ويدكّ الخرطوم نفسها بالطيران، مكرّراً صورة فرانكو وهو يدمّر "جرنيكا" الإسبانية عبر تحالفه مع النازية والفاشية!
    أوجه الشبه بين فرانكو والبرهان:
    - القصف الجوي كأداة للترهيب: كما جعل فرانكو من الطيران النازي أداة لفرض الرعب في "جرنيكا"، يستخدم البرهان سلاح الجو السوداني لقصف المدن والقرى، محولاً المدنيين إلى أهداف مشروعة.
    - إبادة الداخل باسم "الوحدة الوطنية": فرانكو رفع شعار "إسبانيا الواحدة العظمى" لقمع التعددية القومية والسياسية، والبرهان يرفع شعار "الجيش القومي" ليبرّر حربه على المكونات المهمشة ويعيد إنتاج دولة الهيمنة المركزية.
    - قمع الثقافة والفكر: في عهد فرانكو، أُسكت الشعراء والمفكرون ونُفي الفنانون، ومن أبرز ضحاياه الشاعر فيدريكو غارثيا لوركا. أما في السودان، فقد قُمعت الصحافة وحوصرت الفنون وأُرهب المثقفون، في محاولة لتجفيف منابع الوعي
    - تحالف النخب المدنية مع العسكر: كما استعان فرانكو بمثقفين ورجال دين لتوفير غطاء أخلاقي وفكري لحكمه الدموي، يعتمد البرهان على "دمى مدنية من النخب" تقدّم خطابات تجميلية، ومنهم كامل إدريس الذي يمارس الدور نفسه بتسطيح التاريخ وتزيين وجه السلطة العسكرية.

    دكتاتورية بنسخة سودانية:
    - إنّ ما يفعله البرهان اليوم هو نسخة سودانية من الفاشية: حكم بالحديد والنار، قمع ممنهج، تحويل الجيش إلى مرتزقة، وتدمير الوطن حفاظاً على امتيازات النخب. وإذا كان فرانكو قد وجد في لوحات بيكاسو وصرخات نيرودا شهادة على جرائمه، فإنّ البرهان سيجد في دماء السودانيين وخراب قراهم وصرخات فنانيهم الدليل على طغيانه، والأيام دول.
    - أما كامل إدريس، في موقعه كـ"دمية مدنية" تتحرك بخيوط العسكر، فإنه لا يختلف كثيراً عن مثقفي فرانكو الذين وفروا غطاءً خطابياً للنظام الفاشي، فغطّوا على المجازر باسم "الوحدة" و"المصلحة الوطنية"- و"حروب الكرامة"!!

    رابعاً: المقاومة في الأدب والفن الناطق بالإسبانية:
    إنّ استدعاء كامل إدريس لأسماء مثل بيكاسو، نيرودا، ماركيز، وفارغاس يوسا في معرض احتياله السياسي ليس سوى برهان على جهله الصراح؛ إذ إنّ هؤلاء لم يكونوا "أيقونات لغوية" أو مجرد وجوه ثقافية للتباهي، بل كانوا مناضلين ضد الاستبداد والاستعمار، ودفعوا حياتهم وأعمالهم في مواجهة الدكتاتوريات العسكرية التي تشبه في جوهرها ما يفعله البرهان في السودان اليوم!
    - بابلو نيرودا: كتب "النشيد الشامل" و"إسبانيا في القلب" دفاعاً عن الفقراء والمستضعفين، ووقف إلى جانب الجمهورية الإسبانية ضد الفاشية، وانخرط في النضال السياسي المباشر في تشيلي وأمريكا اللاتينية. لم يكن شاعر حب فحسب، بل شاعر مقاومة، يرى في الشعر سلاحاً لمواجهة القمع.
    - غابرييل غارسيا ماركيز: في رواياته الكبرى مثل "خريف البطريرك" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، قدّم صورة كابوسية للدكتاتوريات العسكرية التي تختزل الوطن في نزوات الجنرال. الجنرال في خريف البطريرك – شيخ متسلّط يعيش في عزلة ويُغرق بلاده بالخراب – ليس بعيداً عن صورة البرهان، الذي يدمّر السودان بناء علي أحلام والده، وباسم الجيش القومي، فيما يتصدّر كامل إدريس المشهد كـ"دمية مدنية" في بلاطه، يكرر خطاب التبرير الفارغ.
    - ماريو فارغاس يوسا: ورغم تحوّلاته الفكرية لاحقاً، فإن أعماله الأولى مثل "المدينة والكلاب" و"حياة البطل الصغير" جسّدت نقداً جذرياً للمؤسسة العسكرية وللقمع الاجتماعي والسياسي في بيرو. لقد كشف بحدة عن البنية السلطوية التي تحوّل الأفراد إلى أدوات طيّعة في يد الجنرالات.
    - بابلو بيكاسو: بعمله الخالد "جرنيكا"، لم يقدّم لوحة فنية فحسب، بل شهادة بصرية ضد القصف الفاشي الذي دمّر قرية بأكملها. كان الفن هنا صرخة عالمية ضد عسكرة الدولة، وضد تحويل المدنيين إلى أهداف مشروعة في حرب قذرة
    هؤلاء الفنانون والكتاب لم يقدّموا "أدباً رفيعاً" من فراغ، بل من دماء ومعاناة شعوبهم وتجاربهم مع الاستعمار والاستبداد. استدعاؤهم من قبل كامل ادريس بوصفهم مجرد رموز لغوية هو إهانة لرسالتهم، وتجاهل لدورهم التاريخي في فضح الطغاة الذين يشبهون البرهان ومن يلتصق به من أبواق مدنية. إنّ كامل إدريس حين يستشهد بهم ليجمّل وجه سلطة عسكرية قاتلة، فإنه يفضح نفسه لا غير؛ لأنه لم يقرأهم حقاً، ولم يدرك أن كل كلمة كتبوها كانت موجّهة ضد أمثال من يخدمهم هو اليوم!!

    خامساً: "غيرنيكا" – المفردات البصرية والمفارقة السودانية:
    من المثير للسخرية أن يستشهد كامل إدريس، بصفته رئيس وزراء في سلطة تابعة لحكم عسكري ديكتاتوري، ببابلو بيكاسو، وكأنّه يجهل أنّ أعظم أعمال هذا الفنان وُلدت احتجاجاً على جريمة ارتكبها حاكم عسكري فاشي لا يختلف كثيراً عن مَن يخدمهم إدريس نفسه. لوحة "غيرنيكا" (1937) التي خلدت قصف البلدة الباسكية بأمر من الديكتاتور الجنرال فرانكو، لا تزال اليوم معلقة في مبنى الأمم المتحدة لتذكّر العالم بفظائع القصف ضد المدنيين. استدعاء اسم بيكاسو من قِبل ممثلٍ لنظام يقصف مدنه وقراه لا يحمل سوى مفارقة فادحة وتناقض أخلاقي صارخ.
    لوحة غيرنيكا لم تكن مجرد احتجاج عاطفي، بل صياغة بصرية مكثّفة لقاموس الرعب الإنساني الذي يولده القصف:
    - الثور الضخم: رمز الفاشية وبطش السلطة، وفي الآن ذاته رمز المقاومة الشعبية الصامدة. في السودان، يحاكي جبروت الجيش الذي يرفع شعارات "الوحدة" و"الكرامة" بينما يقصف أهله.
    - الحصان الممزق في قلب اللوحة: جسد يتفجر ألماً، صورة للشعب الذي تسحقه الحرب. هو صدى لضحايا أسواق الكومة وكبكبيّة، وسوق صابرين أو المزارعين في كتم، ويابوس وهيبان وكاودا....وغيرهم..
    - الأم الحاملة طفلها الميت: أيقونة الحزن السرمدي. تتكرر في السودان مع أم هيبان التي فقدت أطفالها الستة تحت القصف، أو عشرات الأمهات في دارفور والخرطوم...
    - المقاتل الممزق الأطراف: قبضة مرفوعة بسيف مكسور منه تنبت وردة، رمز المقاومة المنكسرة وبذور الأمل. يقابله صمود المدنيين السودانيين تحت القصف.
    - المصباح المعلّق في الأعلى: عين الحقيقة التي تفضح الجريمة. هو المنظمات الحقوقية والشهود الذين وثّقوا قصف الطيران السوداني للمدنيين.
    - المرأة الزاحفة المشتعلة: قبس الحياة يخرج من بين الركام، تماماً مثل الناجين في القرى السودانية الذين يروون للعالم مأساتهم!
    من المفارقات الموجعة أن يستدعي كامل إدريس اسم بيكاسو ليزيّن خطاباً يخدم سلطة عسكرية غارقة في الدم. فـ"غيرنيكا" لم تكن مجرد لوحة، بل صرخة روح ضد جنرال فاشي، يختلف في الاسم ولا يختلف في الجوهر عن جنرالات الخرطوم اليوم.
رموزها – من الثور الكاسر، الي الحصان الممزّق، الأم التي تصرخ بطفلها الميت، والسوق المحترق تحت سماء داكنة – لم تبقَ حبيسة إسبانيا، بل تتنفس من جديد في قرى ومدن السودان: هيبان، كاودا، يابوس ، كتم، أم دورين، الخرطوم... كلها "غيرنيكات" سودانية معلّقة على جدار الذاكرة بدم ودخان.
    استدعاء بيكاسو في خطاب كهذا ليس سوى قلب للمعنى وخيانة للرمز؛ فاللوحة لو نطقت، لما أشارت إلى كولومبيا، بل لمدّت أصبع الاتهام مباشرة إلى بورتسودان، حيث ما زال المشهد يتكرر: من فرانكو إلى البرهان، من قصف الباسك إلى قصف دارفور، نفس الطائرات، نفس السوق المحترق، ونفس صرخة الأم التي ترفع طفلها نحو السماء.

    في الختام:
    إنّ محاولة كامل إدريس مخاطبة كولومبيا والدول الناطقة بالإسبانية عبر استدعاء أسماء كبار الأدباء والفنانين ليست إلا مناورة خطابية مكشوفة تكشف ضحالة المعرفة وسوء توظيف الرموز. فاللغة، على عكس ما يتوهّم، لم تكن يوماً جسر وحدة خالصة؛ بل كانت أداةً للهيمنة والقسر، وأحياناً للغزو والاستعمار. ثم إنّ الكبار الذين يستدعي أسماءهم لم يكونوا أبداً أبواق ديكتاتوريات، بل حملوا بالكلمة والقصيدة والريشة قضية شعوبهم، وقاوموا الطغاة الذين لا يختلفون كثيراً عن الجنرال الذي نصّب كامل إدريس مجرّد دمية في بلاطه.
    التجربة اللاتينية التي يحاول إدريس التعلّق بها لم تُنتج فنّاً وأدباً عظيماً لمجرّد أنها ناطقة بالإسبانية، بل لأن شعوبها عاشت القهر وعرفته وقاومته. من نيرودا إلى ماركيز إلى يوسا، تحوّلت الكلمة إلى سلاح مقاومة، والفن إلى ذاكرة للتحرر. أمّا السودان الرسمي، فصدّر إلى العالم نموذجاً آخر: جيشاً مأجوراً قاتل بالوكالة في اليمن وغيرها، ثم عاد ليقصف القرى والأسواق والمدن في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والخرطوم، بينما واجهته المدنية المزيّفة تمارس الاحتيال بالبلاغة الفارغة على المنابر الدولية.
    وفي هذا السياق، تغدو غيرنيكا لبيكاسو أكثر من لوحة؛ إنها مرآة كونية تكشف تكرار المأساة: من قصف فرانكو لبلدة الباسك إلى قصف البرهان لمدن السودان وقراه. المشهد واحد لا يتبدل: سماء مظلمة، قصف عشوائي، أم ثكلى، حصان ممزّق، وطفل لم يعرف من الدنيا سوى موته المبكر. والتاريخ، في حكمه الصارم، يردّد:
    من يزرع الموت في أرض الآخرين، سيحصد الخراب في أرضه يوماً.
    وليس بيكاسو وحده من خلّف إرثاً ثورياً؛ فقصائد نيرودا، وأصوات ماركيز، وصفحات يوسا، كلّها ارتقت إلى فعل مقاومة ضد الفاشية والعسف والفساد. هذه الذاكرة الفنية والأدبية لم تُكتب لتجميل أنظمة عسكرية ديكتاتورية، بل لإدانتها وفضحها؛ إذ تجعل من صمت النخب، جبنهم وتشويشهم، ومن زيف الخطاب، شراكة صريحة في الجريمة.
    وعليه، فإن استدعاء إدريس لتلك الرموز لا يضفي شرعية على سلطته، بل يعمّق إدانتها؛ لأن بيكاسو ونيرودا وماركيز ويوسا، كلٌّ بلغته وأداته، أسّسوا ذاكرة عالمية للثورة ضد القمع، ذاكرةً تقف اليوم، بلا تردّد، إلى جانب ضحايا السودان وثائريه لا مع جلاديه.

    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de