لقد ترقى فلان، وأُحيل علّان للمعاش، جملة فارغة المحتوى تتكرر كل بضعة أشهر في نشرات الأخبار الرسمية بلسان وكالة (سونا). لكن خلف هذه الجملة البريئة الشكل، والقاتلة جوهريا، يطّل الجنرال عبدالفتاح البرهان، متقلدا سيفه الذي أكلته الصدأ، مقاطعا الصمت الجماعي بقرارات لا معنى لها إلا في سياق النهب المؤسسي والمنهجي لمقدرات السودان العسكرية، السياسية، والإنسانية. لكن يا ترى، متى يتجرأ أحدهم وسط دائرة المحسوبية العسكرية، ليكتب بأصابع متعرقة قرارا أخيرا، يقول، تم إحالة عبدالفتاح البرهان نفسه إلى التقاعد بالمعاش، وإلى الأبد؟ عزيزي القاريء.. كلمة راتبة تلك، التي وردت في الخبر، كحجر زاوية لهذا الإنجاز العسكري الباذخ، تستحق وقفة، فما هو الراتب في قاموس الوطن المكلوم اليوم؟ هل هو صوت الرصاص الذي أصبح نغمة صباحية ومسائية في أذن المواطن الأعزل، أم هل هو مشهد جثث الأبرياء التي تتناثر في الطرقات، لا تجد من يوارِيها الثرى؟ هل هو أنين النساء الثكالى، وبكاء الأطفال الأيتام، وحسرة الرجال المهزومين أمام جبروت الطغاة وتخاذل الحماة؟ لا ندري، لكن ربما، في بلاط رئاسة مجلس السيادة والوزراء في مدينة بورتسودان، أضحت هذه الكوارث جزءا لا يتجزأ من الروتين اليومي، وشيئا راتبا كطلوع الشمس وغروبها، لا يستدعي أدنى ذرة من المساءلة أو الشعور بالذنب، فضلا عن تقديم استقالة أو إحالة الذات للمعاش. تلك القرارات، التي تُعلن وسط هذا الخراب الشامل، أشبه ما تكون بمحاولة يائسة لتأثيث قصر يُنهار، أو تلميع أزرار قميص غارق في الدماء. أيّ قوات مسلحة هذه التي تُرتّب صفوفها بينما جسد الوطن يُمزّق أشلاء، وأيّ قانون ولوائح منظمة هذه التي تُطبّق في زمن انهار فيه القانون، وتبخرت فيه اللوائح، وصارت حياة المواطن السوداني أرخص من رصاصة طائشة، أو خطبة عصماء خاوية؟ السخرية لا تكمن في القرارات نفسها، فترقية الضباط وإحالة من بلغوا سن التقاعد أمر طبيعي في أي جيش محترم، لكن السخرية المُرة، بل الفاجعة، تكمن في التوقيت، وفي الفاعل، وفي الحال الذي تمر به البلاد تحت قيادة هذا البرهان. يتغنى الخبر الرسمي بأن هذه الإجراءات تأتي طبقا لقانون القوات المسلحة واللوائح المنظمة لها، ويا للعجب، هل نسي القائد العام أن القانون الوحيد الذي يحكم السودان اليوم هو قانون الغاب؟ هل غاب عن باله أن اللوائح المنظمة أضحت ترابا، وأن البلاد تحكمها فوضى عارمة، وفساد مستشر، وجوع يفتك بالأحشاء في كل مكان؟ أنتم، يا سادة المناصب العليا، من كنتم وما زلتم تصرخون بالالتزام بالقانون والدستور، فإذا بالوطن يتحول إلى ساحة معركة كبرى بين جيشٍ يتلقى الأوامر من قائد لم يحسم بعد، وقوات الدعم السريع التي انقلبت من شريك إلى عدوّ لدود، وكلاهما يُقدم على مذبح مصالحه الضيقة ما تبقى من كرامة هذا الوطن وأمانه. وبينما النيران ما زالت مشتعلة في كردفان ودارفور وولخ، وتُغتصب النساء، ويُهجّر الملايين، وتُدفن أحلام جيل كامل تحت الأنقاض، يبرز لنا القائد المظفر بقرارات ترقية وإحالة للمعاش. هل هذا هو الانشغال الذي يليق بقائد عام لجيش يدعي أنه يحمي الثغور، هل هذه هي أولويات من يدّعي أنه ممسك بزمام الأمور في دولة لا تملك من زمام الأمور شيئا سوى تزايد أعداد الموتى والنازحين؟ إن الحديث عن التقاعد بالمعاش، يثير سؤالا جوهريا ومؤلما: متى يحين موعد إحالة الوطن نفسه للمعاش من عبء قيادةٍ أثقلت كاهله؟ متى يحين موعد تقاعد الشعب السوداني من هذا الكابوس المتواصل، من هذه المأساة التي طالت وامتدت، وأكلت الأخضر واليابس؟ عندما يصدرون قرارات بإحالة هذا أو ذاك للمعاش، ألا يخطر ببالهم أن هناك شعبا بأكمله يتوق لأن يُحال هو الآخر للمعاش من حكمهم وقيادتهم التي لا تُجلب سوى الخراب والدمار؟ يا عبدالفتاح البرهان، دعني أقول لك، إن الأيام دول، والتاريخ لا يرحم، لأنه عندما ينظر إلى هذه الحقبة المظلمة من تاريخ السودان، لن يذكر قرارات ترقية أو إحالة بالمعاش، بل سيذكر المدن التي تحولت إلى أنقاض، والملايين الذين نزحوا، والأطفال الذين ماتوا جوعا ومرضا، والدولة التي تفتت بفعل صراعات أشعلها أصحاب البزات العسكرية ومُحبّو الكراسي، الذين قدموا مصالحهم الضيقة على مصالح الشعب بأسره، سيذكر أن الوطن بات يبحث عن معاش منكم، عن تقاعد أبديّ من رؤوس لم تُجلب سوى الفشل والدمار. يا ليت شعري، ماذا جنت أياديكم سوى الخراب، ودمع سالَ من مآقيكم أرواحُ شعب قضَتْ، والذنبُ منكم أليس الشعب، هو من يُفترض أن يحال للمعاش، المواطنون الذين أرهقهم القتال، وأنهكتهم الهجرة، وأذلهم الفقر، وأصمّ آذانهم ضجيج البنادق والدبابات؟ ألا يحق لهم أن يتقاعدوا من هذا المشهد العبثي الذي يُصرُّ قادته على استمراره، بحجة حماية الوطن تارة، وإجراءات راتبة تارة أخرى؟ أيّ حماية هذه التي حولت العاصمة إلى أطلال، وأغرقت القرى في الصمت والموت، وجعلت السوداني لاجئا في وطنه وخارجه؟ عزيزي القارئ.. هل هذه الترقيات والإحالات للمعاش، هي حقا مجرد إجراءات روتينية، أم هي عملية إعادة تموضع، أو ربما تصفية حسابات داخلية؟ هل هي جزء من تكتيك جديد لترسيخ السلطة في أيدي فئة معينة، أو إبعاد من قد يُشكلون تهديدا محتملا لموقع القائد العام، في بلد يعيش على حافة الهاوية، حيث السياسة هي لعبة صفرية، وحيث الكراسي تتغير بدماء الأبرياء، لوا يمكن لمثل هذه القرارات أن تمر مرور الكرام كإجراءات راتبة. إنها غالبا ما تكون مؤشرات خفية على تحولات داخلية، أو محاولات لشدّ العضد في وجه التحديات التي يواجهها نظام الحكم، إذا جاز التعبير وليس الوطن. بينما يُهرول الضباط المُرَقّون لاستلام نجماتهم الجديدة، وتُطوى صفحات حياة الضباط المحالين للمعاش، يُطوى معها جزء من أمل السودانيين في رؤية تغيير حقيقي. هذه الإجراءات، وإن كانت تبدو شكلية، إلا أنها تُرسل رسالة واضحة: لا تغيير في الأفق القريب، الرسالة هي أن عجلة الروتين العسكري، ستستمر في الدوران، بغض النظر عن الكوارث التي تُصيب المدنيين، وبغض النظر عن الانهيار الشامل للدولة، وكأن ما يحدث في السودان هو مجرد إزعاج بسيط لا يمنع القائد العام من ممارسة مهامه الإدارية اليومية على أكمل وجه. يا عبدالفتاح البرهان، السؤال الذي يتردد في كل بيت سوداني مكلوم، في كل خيمة نزوح، في كل مستشفى يئن من الجرحى، وفي كل مقبرة تضم رفات الأبرياء، هو: متى تُحال أنت للمعاش ليرتاح منك البلد؟ متى تضعون حدا لهذه المأساة التي تسببت فيها قيادتكم، أو تواطؤكم، أو عجزكم، أو حتى مجرد وجودكم في سدة الحكم؟ لقد بلغ السيل الزبى، وبلغ الصبر منتهاه، ولم يعد هذا الوطن يحتمل المزيد من الإجراءات الراتبة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولا تُطفئ نار الحرب، ولا تُعيد الأمن والاستقرار. الشعب السوداني لم يعد يطالب بإجراءات روتينية من قادته، إنه يطالب بنهاية، نهاية لهذا الكابوس، نهاية لهذه الحرب، نهاية لهذه القيادة التي أثبتت عجزها عن حماية شعبها، بل وتورطها في دماره. إن التقاعد الحقيقي الذي يحتاجه السودان اليوم، ليس تقاعد ضابط تجاوز سن الخدمة، بل تقاعد فكر عسكريّ مُهيمن على السياسة، وتقاعد جيل لم يُقدم للوطن سوى الدمار والشقاء، وتقاعد نهج أثبت فشله الذريع.
انظر حولك يا عبدالفتاح البرهان، لترى ما فعلت أياديكم بالسودان، انظر إلى المدن التي كانت تضج بالحياة، فأضحت خاوية على عروشها. انظر إلى الملايين الذين فقدوا بيوتهم وأرزاقهم وكرامتهم، انظر إلى أطفال يموتون جوعا ومرضا في مخيمات النزوح. هل ما يزال، بإمكانك أن تنام قرير العين وأنت تُصدر قرارات راتبة، بينما البلاد تُحرق بغير حساب؟ إن التاريخ لا ينسى، وذاكرة الشعوب لا تمحى، ومهما طال أمد الظلم، فإن شمس العدالة ستشرق لا محالة، وعندها، لن تُفيد قرارات الترقية أو الإحالة للمعاش في تغيير الحُكم التاريخي الذي سيصدر بحق كل من تسبب في مأساة السودان. وبينما يحتفل البعض بترقياتهم، وينسحب آخرون في صمت إلى معاش هادئ، يبقى الوطن السوداني يئن تحت وطأة صراعٍ أليم، ينتظر من يُحييه لا من يُديره كعجلة متهالكة، وسيبقى السؤال معلقا كالسيف على رقاب كل من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وهو متى يحين موعد المعاش الذي يُزيل عنه كابوسكم، ومتى تُكف أياديكم القذرة عن العبث بمقدرات هذا البلد؟ *************** إن السودان اليوم يقف على حافة بين الحياة والموت، بين أن يكون وطنا متعافيا يستعيد كرامته أو أن يظل أسيراً في قبضة قادة لا تنفك قبضتهم سوى تركه رُكاما. القائد لا يكون قائدا بترقية هنا وإقصاء هناك، ولا تُقاس عظمة الجيوش بتوزيع الرتب، بل بقدرتها على حماية أرواح أهلها وصون وطنها من الانزلاق في مستنقع الفوضى. لقد أثبتت الأيام أن من يتصدرون المشهد في السودان، هم سادة الصراع ومهندسو الانقسام، بينما يتكبد الشعب وحده ثمن بقائهم اللاشرعي. فمتى يكون للشعب ذاته قرار روتيني يعيد ترتيب البيت من الداخل، لا بترقيات على الورق، بل بخطوة جريئة تمحو وجوها أثقلت كاهله سنوات؟ نيل السلام لن يأتي إلا بالثبات على مبدأ حياة الوطن فوق حياة القادة المتناحرين، لأن الشعوب تبقى، والقادة زائلون، والتاريخ لا يُمجّد من أسال الدماء، بل من أعاد للأرض خُضرتها، وللمدن ابتسامتها، وللشعوب حريتها. عندما تجد الأمم نفسها في أحلك لحظاتها، فإن شعاع الأمل يأتي ليس من قادتها، بل من شعوبها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة