١/ اللحظة التاريخية: منعطف لا رجعة فيه: الفاشر، والدلنج، وكادوقلي- بل وسائر المدن السودانية - ينبغي أن تتحرّر من قبضة سلطة بورتسودان ومن أيديولوجية النظام الفاشي التي تُعيد إنتاج دولة الهيمنة. هذه ليست مجرّد أزمة عابرة؛ إنّها ثورة تحرير وتأسيس لبناء سودان جديد: علماني، ديمقراطي، لا مركزي، يكفل المواطنة والحقوق المتساوية لكل السودانيين دون استثناء. في تاريخ الأمم والشعوب لحظاتٌ تقطع مع الماضي وتعيد صياغة المستقبل. فرنسا 1789 أنهت الملكية المطلقة وأعادت تشكيل المجتمع رغم الفوضى ودماء "عهد الإرهاب". ألمانيا بعد 1945 أعادت تأسيس ذاتها كدولة ديمقراطية فيدرالية ولم ترجع إلى ما قبل الحرب. جنوب إفريقيا بعد سقوط الأبارتهايد لم تستعد ما قبل 1948، بل صاغت عقدًا اجتماعيًا جديدًا يقوم على المساواة والاعتراف بالتعدد.
٢/ اللحظةُ السودانية بعد 15 أبريل: قطيعةٌ بنيوية لا رجعةَ عنها: منذ 15 أبريل يقف السودان على عتبةٍ تأسيسية غيّرت بنيته السياسية–العسكرية–الاجتماعية جذريًا؛ لا عودة إلى ما قبل الحرب. استدعاءُ رومانسياتِ ديسمبر أو إعادةُ تسويق "التحوّل المدني–الديمقراطي" بالأدوات والمؤسسات ذاتها التي فشلت لعقود إنما هو إنكارٌ للتحوّل الهيكلي. لا منطقة وسطى: إمّا وطنٌ علماني ديمقراطي لامركزي بضمان المواطنة والحقوق المتساوية، وإمّا استمرارُ حرب التحرير حتى إسقاط منظومة الهيمنة التي تتخذ من بورتسودان مركزًا مؤقتًا لإدامة الماضي. المعيار الحاكم اليوم ليس خلوَّ البدايات من الحوادث، بل وجود مشروعٍ تأسيسي يُحوِّل القوة المسلحة إلى احتكارٍ قانوني للعنف عبر منظومة متكاملة: قواعد اشتباك معلنة، تدريب إلزامي على القانون الدولي الإنساني، محاسبة فعّالة بلا إفلات، وبرامج DDR/SSR مستمرة تحت رقابةٍ مدنية–تشريعية مستقلة وهيئات قيادة تأسيسية مفوَّضة. أمّا الرهان على "استنساخ ديسمبر" أو "مدنيّة الشعار" فيتجاهل تبدّل شروط الصراع، فيما تعمل سلطة بورتسودان على إعادة إنتاج بنية الدولة القديمة بأدوات أمنية–أيديولوجية بدل تفكيكها
٣/ طبيعةُ العدوِّ تُحدِّدُ طبيعةَ المقاومة: الخصمُ الذي يواجهه السودانيون اليوم ليس "جيشًا نظاميًّا محايدًا"، بل شبكةٌ عسكرية–أمنية مُؤدلَجة تتصدّرها سلطة بورتسودان، أعادت تدوير البُنى الإسلاموية القديمة وفتحت الباب أمام كتائب عقائدية قاتلت وتُقاتل إلى جانب الجيش مثل "البنيان المرصوص" و"البراء بن مالك" وغيرهما من المجموعات الجهادية، وهما امتدادان تاريخيان لقوات التعبئة الدينية وشبكات الأمن في عهد البشير، وقد وُثِّق انخراطهما ميدانيًا في الحرب الراهنة. هذه البنية ليست "دعمًا شعبيًا" بريئًا؛ إنّها أدلجةٌ مسلّحة تُحاول ترميم دولة الهيمنة عبر تفويض العنف إلى وكلاء عقائديين، وهو ما رصدته تقارير وتحليلات مقارنة عن ارتهان النظام للعسكرة والإسلام السياسي بعد انقلاب 2021 وانهيار الانتقال. وإلى جانب انتهاكات جسيمة وواسعة ارتكبتها أطرافٌ عدّة في هذا النزاع، تُظهر سجلات المنظمات الحقوقية تَحوُّل الصراع إلى كارثة إنسانية تاريخية، مع أنماطٍ موثّقة من الجرائم بحق المدنيين تستلزم مسارَ محاسبةٍ وعدالة لا دعايةً تُبيّض طرفًا على آخر. بهذه الطبيعة، لا تُهزَم الفاشيةُ المؤدلجةُ بالعظات السلمية وحدها. لم تُهزَم النازية في أوروبا بالاحتجاج والتظاهر السلمي، بل بائتلافٍ عسكريٍّ واسعٍ حسم المعركة وأسّس لسلامٍ جديد. ولم يتوقّف التطهير العِرقي في البوسنة إلّا حين فُرِضَ ميزانُ قوّةٍ جديد عبر تدخّلٍ مسلّحٍ أنهى الحرب بـ"اتفاق دايتون". وفي رواندا، انتهت الإبادة على يد الجبهة الوطنية الرواندية التي امتلكت ذراعًا عسكريةً ومشروعًا سياسيًا لإعادة بناء الدولة. وحتى تنظيم داعش، بوصفه نموذجًا معاصرًا لتديين الفاشية وتسليحها، لم يتراجع إلّا أمام تحالفٍ قتالي–سياسي جمع قواتٍ محليةً منضبطة مع دعمٍ دولي منظّم.
الخلاصة العملية: طالما أنّ رؤية سلطة بورتسودان للمستقبل هي استعادة دولة مركزية مؤدلجة تُعيد إنتاج التفويض للعنف و"كتائب" العقيدة، فإنّ طبيعة المقاومة اللازمة ضدّها يجب أن تكون مركّبة: قوةٌ مسلّحةٌ منضبطةٌ خاضعةٌ لسلطةٍ سياسية تأسيسية، تُزاوج بين التحرير والدستور والعدالة، وتُعيد احتكار العنف للقانون عبر مشاريع بناء أمنيٍّ متقدم وعميق، ومحاسبةٍ قضائية؛ أمّا السلمية المجردة في هذا السياق فتعني ترك المجتمع أعزل في مواجهة منظومةٍ فاشيةٍ مدجّجةٍ بأدلجةٍ قتالية ووكلاء عقائديين.
٤/ طبيعةُ الحربِ والثورات: سيرورةٌ متحوِّلة لا لحظةً جامدة: الثورات ليست "لحظة" أخلاقية مُجرَّدة، بل عمليّة تاريخيّة–سياسيّة تتبدّل فيها التحالفاتُ والأدواتُ والخطابُ بتبدّل موازين وتقاطعات القوّة. وغالبًا ما يأتي الانضباطُ المؤسّسي لاحقًا بوصفه ثمرةَ إصلاحٍ سياسي–تنظيمي، لا شرطًا مسبقًا لولادة الثورة كما تحتال النخب في جهود تسويفها لطبيعة الصراع، والتاريخ يعلمنا: - روسيا 1917: دخل البلاشفة في ائتلافٍ أوليّ مع الاشتراكيين الثوريين–اليساريين داخل مجلس مفوّضي الشعب (ديسمبر 1917–مارس 1918)، ثم انهار الائتلاف تحت ضغط معاهدة بريست–ليتوفسك وإدارة الحرب الأهلية. أعقب ذلك تأسيس التشيكا ومرحلة شيوعية الحرب بما صاحبها من تمرّدات كبرى مثل تمبوف (1920–1921) وكرونشتادت (1921)، قبل الانتقال إلى السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) وإعادة المأسسة وبناء جيشٍ أحمر منضبط. الخلاصة: الانضباط كان مُكتسَبًا عبر تصحيحٍ مؤسسي لاحق، لا شرطًا سابقًا للثورة. - الجزائر 1954–1962 (إفريقيا): صراعاتٌ داخليّة وواقعة ملوزة، ثم تماسكُ جبهة التحرير وبناءُ مؤسسات الاستقلال -انتقالٌ من فوضى التأسيس إلى مركزٍ قيادي وانضباطٍ أعلى. - جنوب أفريقيا: بدأ "رمح الأمة" (Umkhonto we Sizwe/MK) بعمليات تخريبٍ موجّهة ضد بنى الأبارتهايد، ورافقت التجربة تجاوزات في معسكرات المنفى (مثل كواترو). ومع تبلور المشروع السياسي وقيام تحقيقات داخلية ثم مثول الحركة أمام لجنة الحقيقة والمصالحة، ترسّخ انضباطٌ مؤطّر وتوحّد القرار القتالي–السياسي، ما أفضى إلى تسوية تفاوضية أنهت الأبارتهايد وأطلقت عقدًا اجتماعيًا دستوريًا جديدًا - فيتنام: من كرٍّ وفرّ غير مركّز إلى تنظيمٍ حزبي–عسكري منضبط بإسناد هانوي وإدارةٍ مدنيّة للمناطق المحرّرة؛ حُسم الصراع وتوحّدت البلاد. - نيكاراغوا: انتقل الساندينيستا من خلايا مشتّتة إلى جبهةٍ موحّدة، ثم أسّسوا جهازَ دولةٍ وإصلاحًا أمنيًّا وانتخابات - مأسسةٌ لاحقةٌ لتمرّدٍ بدأ متشظّيًا. واجباتُ التحرير تجاه المدنيين: الممرّات الآمنة بوصفها التزامًا قانونيًّا ومعياريًّا في سياق العمليات التحريرية، تفرض القواعدُ المستقرة في القانون الدولي الإنساني (التمييز، التناسب، والاحتياطات الممكنة) على الفاعلين المسلّحين اتخاذَ تدابير فعّالة لخفض المخاطر على المدنيين، وفي مقدّمها إتاحةُ ممرّاتٍ آمنة وخططُ إخلاءٍ منظّمة بالتنسيق مع جهاتٍ إنسانية محايدة (كاللجنة الدولية للصليب الأحمر ووكالات الأمم المتحدة). والمبادئ نفسها تتطلّب حظر استخدام الممرّات لأغراض قتالية أو دعائية، وتأكيد الطوعية وسريّة المعلومات التي قد تعرّض الخارجين للخطر. نماذج مرجعية (مع التحفّظ على السياقات): - سوريا (2016): إنشاء ممرّاتٍ إنسانية لإجلاء المدنيين بإشراف أممي وجهات إغاثية، مع كل ما صاحب التجربة من تعقيداتٍ واتهامات؛ لكنها تُظهر أن الأطر الإجرائية ممكنة حين يوجد اتفاقٌ على النوافذ الزمنية والضمانات. - أوكرانيا (2022): قوافلُ إجلاءٍ إنسانية بإسنادٍ من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مكّنت أعدادًا كبيرة من مغادرة مناطق الحصار عبر مساراتٍ مُعلَنة ونقاط تجمّعٍ متّفقٍ عليها. وفي الحالة السودانية، يجب التأكيد علي ان واجبُ القوى الثورية - وهي تسعى لتحرير المدن من قبضة سلطة بورتسودان وأيديولوجيتها- مضاعفًا- وهو ان تستمر في توفير الممرات الامنه: تحريرُ الأرض لا يكتمل من دون تحرير المدنيين من أخطار المعركة. توفيرُ الممرّات الآمنة، والنوافذ الزمنية المعلنة، والتنسيقُ مع الفاعلين الإنسانيين، ووضعُ قواعد اشتباكٍ علنية، هي اختبارُ الجِدّية التأسيسية: دولةُ المواطنة تبدأ من حماية الحياة وهي لا تزال في طور التشكّل.
٥/ طبيعةُ المقاتلين وتطوّرُ الوعي بلا تجميلٍ ولا مراوغة: الانضباطُ القتالي ليس "اختبارَ طهارةٍ" يسبق الاعترافَ بالمشروع السياسي، بل حصيلةُ عمليةٍ اجتماعية–مؤسسية تُعالِج ما تسميه الأدبياتُ المقارنة "مشكلةَ الوكيل" في الحروب الأهلية: تعدُّدُ الدوافع والخلفيات داخل التنظيم يُواجَه بالتدريب، وبناء العقيدة القتالية، وسلاسل القيادة، وآليات المحاسبة والردع. تُظهر أعمالُ علم العنف السياسي (من كاليڤاس وغيرِه) أن أنماطَ السلوك تتبدّل مع تغيّر السيطرة الميدانية وتزايد المعلومات ووضوح القيادة؛ فيقلّ العنفُ العشوائي بقدر ما يشتدُّ الانضباطُ المؤسسي. الترجمة السودانية المباشرة لهذا: قواتُ الدعم السريع نتاجُ سياسةِ صناعة الميليشيات وخصخصةِ العنف التي راكمتها الدولةُ القديمة منذ دارفور. هذه حقيقةٌ بنيوية لا تُمحى بخطبةٍ إنشائية. والمفارقةُ الفاضحة اليوم أنّ النُّخَب التي أنشأت هذه الأدوات أو تواطأت مع تمدّدها تريد تحويلَ تجاوزاتٍ ميدانية مدانة - نعم، مدانة بلا مواربة - إلى صكّ إعدامٍ سياسي لأي مشروعٍ يسعى لإعادة توجيه القوة وإعادة تأهيلها داخل دولةٍ جديدة. لا مساومة على الحقوق: - كلُّ انتهاكٍ يُحاسَب، وكلُّ ضحيةٍ يجب ان تُنصَف، وعدمُ الإفلات من العقاب مبدأٌ تأسيسيّ لا تعويقٌ انتقائي. لكنّ التقويم السلوكي لا يحدث بقرارٍ لحظيّ؛ إنه مسارٌ مؤسَّس يقوم على: (1) عقيدةِ اشتباكٍ جديدة، (2) تدريبٍ إلزامي على القانون الدولي الإنساني، (3) تسلسلٍ قيادي واضح، (4) محاكماتٍ مختصة ونياباتٍ فعّالة، (5) برامج مستقبلبة للدمجٍ/تسريحٍ وإعادة التأهيل
تفكيك مراوغة النُّخَب: يُراد لنا قبولُ معادلةٍ خادعة: "إمّا انضباطٌ مُكتمل الاركان قبل المشروع، أو لا مشروع". هذا قلبٌ للمنطق؛ المشروعُ هو الذي يَصنَع الانضباط عبر مؤسساتٍ وضوابطَ ومحاسبة. أمّا اشتراطُ "جيشٍ ملائكي" قبل الاعتراف بحقّ السودانيين في تأسيس دولتهم، ومؤسساتهم فليس أخلاقًا بل تعطيلٌ موجّهٌ للهدف السياسي وإبقاءُ لدولة الهيمنة تحت لافتةٍ أخلاقية.
٦/ "التجاوزات" كذخيرةٍ دعائية ومنطق "ارتداد الأداة": تضخيم كلّ حادثةٍ ميدانية بوصفها "البرهان النهائي" على سقوط مشروع التأسيس مغالطةٌ سببيّة تستبدل العِلّة بالمعلول. فـهندسةُ الميليشيات كانت سياسةَ الدولة القديمة لفرض السيطرة عبر تفويضٍ منفلتٍ للقوة، ما قوّض احتكارَ العنف الشرعي وأنتج - بحكم علاقة الوكيل/الموكِّل - عنفًا عشوائيًا عالي الكلفة يميل لاحقًا إلى الانفلات عن المركز. هنا يعمل قانون "ارتداد الأداة": مَن يفوّض العنفَ لوكلاء عقائديين أو مرتزقةٍ يستجلب لاحقًا آثارًا مرتدّة على أمنه وشرعيته.. على مدى عقود، راكمت النُّخَب اقتصادَ حرب وخصخصةً منظّمةً للعنف، وحوّلت الموارد إلى الأمن والدفاع على حساب المجتمع والاقتصاد؛ ثم خرجت اليوم تُشيطن كل مسارٍ تغييري وتطالب بـ"معجزةٍ أخلاقية" فورية. القاعدةُ البسيطة: من صمّم الأداة لا يملك التبرؤ من آثارها. وحين انقلب ميزانُ القوّة، ووجّهت الأداة—التي صُنعت لحماية الامتيازات—فُوَّهتها إلى صانعها، ظهر هلعٌ نفسي–سياسي غطّته النخبُ بخطابٍ أخلاقي انتقائي: تكبيرُ كلّ خرقٍ لإعدام فكرة التغيير برمّتِها. هذا ليس دفاعًا عن "الإنسانية"، بل حربُ سرديّات لتعطيل مشروع تأسيس دولةٍ علمانيةٍ ديمقراطيةٍ لا مركزية تُعيد احتكارَ العنف للقانون وتُنهي دورة التفويض المنفلت – دولة مواطنة عادلة.
خارطة العلاج (لا التمويه والاحتيال): المطلوب مسار مزدوج: - عدالة ومحاسبة بلا انتقاء وعدم إفلات من العقاب، كما ورد في ميثاق تاسيس. - بناء أمني مؤسسي لجيش جديد بعقيدة قتالية دستورية ويضع استخدام القوة تحت رقابة القانون والقضاء والمؤسسات الدستورية التأسيسية المدنية.
تفكيك أدوات مراوغة النُّخَب: لتحرير النقاش من التضليل، يلزم كشف الأدوات الخطابية الشائعة التي تُعطِّل أي مسار تأسيسي: - تعميم الذنب: تحويل أفعال بعض الأفراد/الجنود إلى حكمٍ قاطع على المشروع برمّته. - الابتزاز الأخلاقي: اشتراط "نقاءٍ ميتافيزيقي" مستحيل قبل أي خطوةٍ مؤسّسية. - الانتقائية الزمنية: اجتزاء "لحظةٍ مثالية" من ديسمبر لتشويه ديناميات ما بعد الحرب - الاستبدال الخطابي: استبدال سؤال الدولة (من يحتكر العنف وبأي إطار قانوني؟) بسؤال السلوك الفردي لإبقاء "الدولة الأمنية" على قيد الحياة. المعايير الحاكمة: - المعيار العلمي: المطلوب مشروع سياسي–دستوري يُصحّح الانحراف ويشيّد الانضباط عبر مؤسّسات شرعية: قوانين واضحة، قضاء مستقل، وعقيدة قتالية دستورية، ميقاق تحالف تأسيس نموزج! - المعيار الأخلاقي: عدم التساهل مع الانتهاكات أيًّا كان مرتكبها، وربط استخدام القوة بقواعد القانون الدولي الإنساني؛ وهذا تكليف مؤسّسي لحكومة التأسيس وأجهزتها الرقابية، لا شعار للتأجيل. - المعيار السياسي: طبيعة العدو- تنظيم إسلاموي–فاشي مسلّح - تفرض مقاومة مركّبة: ليست السلمية وحدها كافية، ولا العسكرة المنفلتة مقبولة؛ المطلوب حرب تحرير مُؤسَّسة تفضي إلى سِلمٍ دستوري لا إلى إعادة تدوير دولة الهيمنة.
المعيار العملي (خارطة الطريق): - الشروع في عدالة تاريخية بعينٍ جنائية لا تُساوم، واعتماد قواعد اشتباك واضحة، وتدريب إلزامي على حقوق الإنسان والقانون الإنساني، وإنشاء نيابات ومحاكم متخصصة، وشفافية تقارير ميدانية، مع رقابة من مؤسسات تأسيس ذات الصلة. بذلك لا يتحوّل شعار "عدم الإفلات من العقاب" إلى غطاءٍ للتسويف، ولا إلى ذريعةٍ لإجهاض الهدف: تأسيس دولة المواطنة المتساوية وسيادة القانون.
٧/ التجاوزات كسلاح دعائي للنخب: حين تستخدم النخب حجة التجاوزات الميدانية للدعم السريع كدليل قاطع على "فشل" مشروع "تأسيس" برمته فهي تكشف إفلاسها الفكري والسياسي. هذا المنطق يتجاهل أن هذه النخب حكمت السودان لعقود- مايقارب السبعين عاما، وفشلت في بناء جيش وطني منضبط، بل خلقت مليشيات كالدعم السريع نفسه لحماية سلطتها وامتيازاتها. اليوم، حين تتحول هذه القوة ضدهم، يظهر الخوف النفسي العميق لمن صنع أداة قمع ثم انقلبت عليه - وهو خوف موصوف في دراسات علم النفس السياسي باعتباره "صدمة ارتداد الأداة" (The Boomerang Effect of Coercive Instruments).
٧/ المشاريعُ المدنيّةُ الدوغمائيّة: عجزٌ مُقنَّع وزيفٌ مُريح: المشاريع التي تدعو إلى استنساخ ديسمبر وكأنّ الحرب لم تقع، أو تفترض أنّ الفاشيّة المسلّحة ستتبدّد أمام لافتة "مدنيّة"، ليست سوى طوباويّة مُعطِّلة. فهي تُسوِّف طبيعة الصراع وتغضّ الطرف عن تحوّلاته البنيويّة، وتقدّم حلًّا "سهلًا" لا يختبر بنية الدولة القديمة وآليات هيمنتها. وفي السياق السوداني، تنقلب هذه الطوباويّة إلى تواطؤٍ عملي مع إعادة تدوير مركزٍ سلطوي ذي رؤية أمنيّة–أيديولوجيّة، لأنها ترفض الاعتراف بأن شروط اللعبة تغيّرت جذريًّا بعد الحرب
علامات هذا العجز: - إنكار التحوّل البنيوي الذي فرضته الحرب على الخريطة السياسيّة - العسكريّة والاكتفاء بشعارات إجرائيّة - تقديس الشعار (المدنيّة): مدنيّة بلا مؤسّسات ضابطة، بلا عدالةٍ ومحاسبة، وبلا صلة ببُنى القوّة الفعليّة - ابتزاز أخلاقي يساوي بين المطالبة بالانضباط القانوني وبين نفي مشروعيّة الكفاح ضدّ فاشيّة مسلّحة - تجاهل علاقة المركز بالهامش وإحياء خطابٍ يُجزِّئ الحقول الجغرافيّة والاجتماعيّة تحت وهم "العودة لما قبل الحرب"
البديل المنهجي: ليس "مدنيّة الشعار"، بل مدنيّة المؤسّسات: عقدٌ علماني ديمقراطي لامركزي يردّ احتكار العنف إلى القانون عبر بناء منظومة علي أسس أمنيّة جديدة، وعدالةٍ لا إفلات فيها من العقاب، واقتصادٍ يُفكّك شبكات الريع الأمني. ما عدا ذلك، يبقى الحديث عن "المدنيّة" قناعًا لاستمرار الدولة القديمة بأدواتٍ جديدة.
أخيرًا: لا حيادَ في لحظةِ التأسيس — ولماذا يجب تحرير الفاشر وكادقلي والدلنج وسائر المدن من سلطة بورتسودان: في معركةٍ وجوديّةٍ ضدّ فاشيّةٍ مسلّحة، الحيادُ ليس أخلاقًا ولا فكرًا ثوريًّا؛ إنّه انحيازٌ صامتٌ للوضع القائم. لذلك فإنّ تحرير الفاشر وكادقلي والدلنج—وسائر المدن السودانية—من سلطة بورتسودان ليس خيارًا تكتيكيًا، بل شرطٌ تأسيسي لإنهاء دولة الهيمنة واستعادة شرعيةٍ دستورية تحتكر فيها الدولةُ العنفَ وفق القانون وتضمن السلام والوحدة والمواطنة المتساوية. لماذا التحرير ضرورةٌ الآن؟ - لأنّ سلطة بورتسودان تُعيد تدوير الدولة الأمنية–الأيديولوجية التي دمّرت المركز والهامش، وتستبقي التفويض المنفلت للعنف وريع الحرب. - ولأنّ حماية حقوق الإنسان لا تتحقّق بالشعارات، بل ببناء مؤسّسات، ومحاسبة وعدم إللافلات من العقاب، وقواعد اشتباك معلنة، ، وهذه لا تُقام تحت مظلّة سلطةٍ تحمي أدواتها. - ولأنّ تحرير الوطن يفتح الطريق لعقدٍ اجتماعي علماني ديمقراطي لا مركزي يردّ القرار إلى المجتمعات ويُنهي احتكار المركز للسلطة والثروة.
الحجّة الأخلاقية–سقوط أسطورة الحياد: - ديزموند توتو: "إذا كنتَ محايدًا في وجه الظلم فقد اخترتَ جانبَ الظالم" - باولو فريري: "غسلُ اليدين من صراع القويّ والضعيف انحيازٌ إلى القويّ" - غرامشي: "أكره اللامبالين… الحياةُ موقفٌ وانحياز" - هوارد زن: "لا يمكنك أن تكون محايدًا في قطارٍ يتحرّك" الخيار الحاسم: إمّا الاصطفاف خلف مشروع التأسيس لعقدٍ اجتماعي علماني ديمقراطي لا مركزي يعيد للدولة شرعيّتها وللقانون احتكارَه المنضبط للقوة، أو ترك الساحة لبرهان وبورتسودان وكتائب الإسلاميين لإعادة تدوير الهيمنة. ثورة ديسمبر صارت رصيدًا تاريخيًا؛ أمّا الحاضر فيُلزم بـالتحرير فالتأسيس. لا الطوباوية، ولا الرومانسية، ولا الحياد تبني وطنًا؛ الذي يبنيه هو القرار المؤسِّس، والعدالة، والوضوح الاستراتيجي
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة