المعجزة الصينية والنموذج الكوري: مقارنة تحليلية بين مسارين للتنمية في آسيا مقدمة- شهدت آسيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى، تجلّت بشكل واضح في نموذجي الصين وكوريا الجنوبية. كلا البلدين انطلق من واقع ما بعد الصدمة (ثورة ثقافية في الصين، وحرب مدمرة في كوريا)، لكنهما تبنيا سياسات تنموية مختلفة جذريًا في السياق السياسي، والأدوات الاقتصادية، ومحددات العقد الاجتماعي. في هذا السياق، يأتي كتاب Wang Feng (China’s Age of Abundance, 2024) ليقدم قراءة معمقة في التجربة الصينية، مما يسمح بمقارنة أكثر دقة وواقعية مع التجربة الكورية الجنوبية، بعيدًا عن الأحكام العامة أو السرديات السائدة. أولاً: ملامح الإقلاع الاقتصادي — أرضية انطلاق متشابهة المعيار الصين (1970) كوريا الجنوبية (1953) طبيعة الاقتصاد زراعي منغلق دمار ما بعد الحرب نمط الحكم شيوعي مركزي عسكري سلطوي تحول لاحقًا إلى ديمقراطية الناتج المحلي للفرد أقل من 200 دولار أقل من 100 دولار
رغم هذا الانطلاق المتواضع، تجاوز البلدان، كل بطريقته، معوقات التخلف، مما يدفع لتحليل كيف وليس فقط كم تحقق هذا النمو.
ثانيًا: دور الدولة — تدخل ذكي أم سيطرة مطلقة؟ الصين: لم تكن الدولة الصينية "قوة شمولية خاملة"، بل مارست تخطيطًا مركزيًا مرنًا:
احتفظت الدولة بقطاعات استراتيجية (الطاقة، التمويل، الاتصالات).
في المقابل، حررت صناعات خفيفة وخدماتية لجذب الاستثمار الأجنبي.
أطلقت مناطق اقتصادية خاصة (SEZs) بدءًا من 1980، والتي جذبت 70% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر بحلول عام 2000.
كوريا الجنوبية: مارست الدولة سياسة "التنمية الموجهة" عبر دعم التشيبولات (Chaebols).
ثم تحوّلت إلى منظم للسوق تدريجيًا بعد الانتقال الديمقراطي عام 1987.
وفق بيانات OECD (2023): انخفض دعم الدولة المباشر للتشيبولات من 80% (1970) إلى أقل من 30% بعد أزمة 1997.
ثالثًا: التحول الصناعي والتحضر — من المصنع إلى المدينة الصين: شاعت عبارة "تصنيع دون تحضّر"، لكنها مضلّلة. معدل التحضر ارتفع من 20% (1980) إلى 65% (2024).
نظام الهوكو (hukou) خفف قيوده بعد 2014، وبدأ دمج العمال الريفيين في أنظمة الضمان والخدمات.
التفاوت الحضري الحقيقي مصدره الفجوة الجغرافية:
نصيب الفرد في شنغهاي يعادل 6 أضعاف نظيره في قويتشو.
كوريا الجنوبية: النمو الحضري كان مهيمنًا على سيول وضواحيها.
في 2023، 50% من الناتج الاقتصادي يتركز في المنطقة الكبرى لسيول.
تعاني البلاد من انكماش سكاني في أكثر من 44% من القرى الريفية.
رابعًا: الابتكار والتعليم — أرقام لا انطباعات المؤشر الصين كوريا الجنوبية الإنفاق على RandD 2.4% من الناتج المحلي 4.8% (الأعلى عالميًا) براءات الاختراع/مليون نسمة 1,200 3,500 الجودة التعليمية متوسطة – تركز على STEM عالية – تشمل الإبداع والفنون
الصين تتفوق في الابتكار التطبيقي (البنية التحتية، الذكاء الاصطناعي).
كوريا الجنوبية تقود في الابتكار الجذري (أشباه الموصلات، التكنولوجيا الحيوية).
خامسًا: النتائج الاجتماعية — رفاه أم ضغوط؟ الصين: نجحت في انتشال أكثر من 800 مليون من الفقر (وفق بيانات البنك الدولي).
لكنها تشهد تفاوتات حادة بين الأقاليم.
طبقة وسطى ناشئة لكنها تحت ضغط غلاء المعيشة وقيود الهوكو.
كوريا الجنوبية: قفزت في مؤشر نوعية الحياة، لكنها دفعت ثمنًا اجتماعيًا:
أعلى معدل انتحار في OECD.
ضغط تعليمي شديد على الطلبة.
عبء سكني مرتفع في المدن الكبرى.
سادسًا: التحديات المستقبلية — فخاخ محتملة الصين: فخ الدخل المتوسط: 65% من الناتج قائم على الاستثمار، لا الاستهلاك.
أزمة ديموغرافية: بحلول 2040، 28% من السكان فوق 60 عامًا.
الاعتماد التكنولوجي: 75% من الشركات التقنية تعتمد على مكونات مستوردة.
كوريا الجنوبية: معدل خصوبة = 0.78 (2023) – الأخفض عالميًا.
احتكار التصدير: 5 شركات كبرى مسؤولة عن 60% من الصادرات.
سابعًا: النمو السياسي — سلطة مطلقة أم حوكمة رشيدة؟ العامل الصين كوريا الجنوبية النظام السياسي سلطوي (حزب واحد) ديمقراطي تعددي الكفاءة التنفيذية عالية في المشاريع الكبرى متوسطة بسبب البيروقراطية المرونة والإصلاح محدودة أمام الأزمات عالية بفضل المجتمع المدني مؤشر الحوكمة (WB 2024) 45% فعالية فقط 75% في الفعالية وسيادة القانون
الاستنتاج- "الكفاءة المؤسسية، لا شكل النظام السياسي، هي ما يحدد نجاح النموذج التنموي".
دروس قابلة للاقتباس لا للاستنساخ 1. الصين: أثبتت أن التخطيط المركزي فعال في مراحل البناء الأولي.
لكن "عصر الوفرة" الذي يشير إليه Wang Feng يواجه مفارقة الجودة: المزيد لم يعد كافيًا، بل يجب أن يكون أفضل.
2. كوريا الجنوبية: التجربة الكورية تؤكد أن الديمقراطية والتنمية ليستا في تضاد إذا اقترنتا بمؤسسات قوية واستثمار في الإنسان.
3. الخلاصة المقارنة: "لا يوجد نموذج عالمي ثابت للتنمية. هناك سياسات مرنة، تنبع من السياق المحلي، وتجمع بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية".
مراجع معتمدة: Wang Feng, China’s Age of Abundance (2024)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة