قراءة سياسية في تشكيل وحدة شبابية بمكتب رئيس الوزراء وتداعياتها على مستقبل الدولة السودانية
في خطوة وُصفت بأنها تتجاوز البعد الإداري، أصدر رئيس الوزراء السوداني "كامل إدريس" قرارًا بإنشاء وحدة شبابية تتبع لمكتبه التنفيذي، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام تأويلات سياسية حول طبيعة هذا الكيان وعلاقته بإعادة تموضع بعض المكونات المسلحة داخل بنية الدولة.
هذه الخطوة لا يمكن قراءتها بمنأى عن السياق السياسي والأمني الذي يمر به السودان منذ انقلاب أكتوبر 2021، وهي تأتي في إطار ما يُمكن تسميته بـ"الهندسة المؤسسية للنفوذ"، حيث يتم تحويل القوة غير الرسمية إلى ذراع شبه حكومي عبر أطر إدارية تبدو قانونية من الخارج، لكنها تحمل في طياتها مشروعًا لإعادة إنتاج السيطرة.
البُعد السياسي والأمني: من البندقية إلى البيروقراطية ليست هذه الوحدة سوى امتداد لتحولات طرأت على جسم "كتيبة البراء بن مالك"، المعروفة بانخراطها في اقتصاد الحرب والتهريب، والمرتبطة تاريخيًا بالحركة الإسلامية. التحول من النشاط المسلح إلى النفوذ المؤسسي يتطلب أدوات جديدة تحويل المقاتلين إلى موظفين، بناء سردية تنموية جديدة، وإيجاد غطاء قانوني يمر عبر مكتب رئاسة الوزراء.
تلك الخطوة تعيد للأذهان تجارب مشابهة في الإقليم، مثل الحشد الشعبي في العراق أو حزب الله في لبنان، حيث تنخرط المليشيات في منظومة الدولة دون أن تفقد استقلالها أو مشروعها الخاص.
أدوات السيطرة: شرعية جديدة بوسائل قديمة من خلال استيعاب أفراد الكتيبة داخل الجهاز الإداري، والسيطرة على تمثيل الشباب، وبناء شراكات مع منظمات إغاثية دولية، يتم بناء منظومة نفوذ تعتمد على المال والمؤسسات بدلاً من السلاح وحده.
وقد أشارت تسريبات إلى أن تمويل هذه الوحدة قد يصل إلى نحو 300 مليون دولار، تُدار عبر قنوات مرتبطة برأسمال طفيلي إسلامي. هذه الأموال ليست فقط مخصصة للتنمية كما يُروّج رسميًا بل قد تُستخدم في تمويل عمليات ميدانية تحت غطاء مدني، كما حدث سابقًا في دارفور بحسب بعض التقارير الأمنية المسربة.
تفكيك الدولة من الداخل: نحو نموذج المليشيا الحاكمة تمثل هذه الخطوة مسارًا موازياً للانتقال الديمقراطي، يقوم على استيعاب أدوات القوة غير الشرعية داخل جهاز الدولة. هذا النموذج، إذا استمر، يقوّض إمكانية قيام مؤسسات حيادية، ويعيد إنتاج نمط "الدولة الغازية" حيث تُستخدم مؤسسات الدولة كغطاء لتصفية الخصوم، وضمان الهيمنة الانتخابية، عبر قنوات موجهة. ومع تحركات لتجريم "لجان المقاومة" وتفكيك شبكات المجتمع المدني المستقلة، تتحول الدولة تدريجيًا إلى ما يشبه "المسرح القانوني" لتمرير أجندات سياسية ضيقة.
البعد الإقليمي: السودان كساحة صراع محاور لا يمكن تجاهل البُعد الجيوسياسي لما يجري. التحركات الحالية تحظى بدعم واضح من بعض القوى الإقليمية، التي تسعى لترسيخ نفوذها في السودان عبر أدوات محلية محسوبة. ويبرز هنا الدور الخفي الذي تلعبه شركات إماراتية في تمويل شبكات النفوذ، في مقابل محاولات إقليمية أخرى، لا سيما من تركيا وقطر، لإعادة موضعة الإسلاميين بوجه جديد في المشهد.
السيناريوهات المستقبلية: بين تمكين المشروع أو تفككه مع غياب رقابة مدنية حقيقية، فإن توسع نفوذ هذه الوحدة قد يكرّس واقعًا سياسيًا هشًا، يجعل من السودان دولة تدار من مراكز قوى غير خاضعة للمساءلة. الاحتمالات تتراوح بين:
استمرار تحكم المليشيا بمفاصل الدولة وتحولها إلى مركز قرار فعلي.
تفجر احتجاجات شعبية في حال انكشاف الأجندة الخفية لهذا الكيان.
تدخل دولي تحت بند تمويل الإرهاب في حال استخدام الأموال لأغراض عسكرية.
خاتمة: دولة تُعاد كتابتها تحت غطاء الشرعية إن تشكيل وحدة الشباب في مكتب رئيس الوزراء لا يمكن فصله عن صراع الشرعيات في السودان. إنها خطوة جديدة في مشروع طويل لاحتلال الدولة عبر القوانين، بعدما تعذر السيطرة عليها عبر الانقلابات المباشرة.
في هذا المشهد المعقد، تبرز معركة جديدة لا تُخاض في الشوارع فقط، بل في دهاليز الدساتير، ومكاتب التمويل، ومراكز اتخاذ القرار. فهل تصمد الدولة السودانية أمام هذا التغلغل المؤسسي؟ أم أنها على مشارف تفكك جديد، يختبئ خلف يافطات التنمية؟
"لقد خُطفت الدولة السودانية مرة بالسلاح، والآن يُعاد تدوير اختطافها عبر الأدوات القانونية... ويبقى الشعب، هو الضحية الأبدية للمشاريع الناقصة."
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة