في صيف 2025 الحار جادا، وتحديدا في السادس والعشرين من يوليو، انبعثت شرارة إعلان سياسي من مدينة نيالا، لتُعلن عن ميلاد حكومة التأسيس المزعومة، والتي سارعت في تبني اسم جذاب براق لامع، أطلق عليه ( حكومة السلام). للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى الذهن أن هذا الإعلان يمثل نقطة تحول حقيقية، انبثاق شمس جديدة على أفق السودان الغارق في أتون صراعاته الأبدية. غير أن نظرة فاحصة على الوجوه التي تصدرت المشهد، وعلى الخلفيات السياسية التي حركت هذه المسرحية، سرعان ما تكشف عن مفارقة لاذعة، وتناقض صارخ يثير في النفس خليطا من الضحك المرّ والسخرية اللاذعة، إذ كيف لحكومة تدّعي التأسيس لبناء السودان الجديد، أن تُشيد صرحها على أنقاض السودان القديم بأكمله، بل والأدهى، أن يكون أبرز معمارييها من مخضرمي ذاك السودان الغابر، الذين لا يزال عبق التاريخ الفاشل يفوح من أروقتهم. هذا التناقض، ليس مجرد هفوة، بل هو مربط الفرس في هذه الكوميديا السياسية التي تُعرض علينا في قالب الدراما الجادة. إنه الاستهبال السياسي بعينه، الذي يفترض في الشعوب السودانية غباء مفرطا، وذاكرة قصيرة، وقلبا يائسا مستعدا لقبول أي وهم يلوح في الأفق باسم السلام. ولكن مهلا، هل يعتقدون حقا أن ذاكرة شعب نُكِبت مرارا وتكرارا، وذاق مرارة الوعود الزائفة، ما زالت قابلةً للتصديق بأن القديم يمكن أن يؤسس الجديد دون تغيير جوهري؟ دعونا نتوقف قليلا عند تشكيلة هذه الحكومة الواعدة، حيث وبدلا من أن نرى دماء شابة، أو رؤى جديدة، أو حتى تيارا سياسيا مختلفا، يحمل على كاهله هموم التغيير الحقيقي، وجدنا أنفسنا أمام تُحفة من المخضرمين الذين عاصروا كل الحقب، وتقلّبوا في كل السلطات، ولم يقدموا للسودان سوى تراث ثقيل من الأزمات والخطابات الجوفاء. إنها لمّة من أحزاب وتنظيمات السودان القديم، تلك التي تشبه إلى حد كبير صالونا سياسيا عتيقا، حيث تتجدد الوجوه وتبدّل الكراسي، لكن الرائحة العفنة للفشل السياسي تظل هي هي. والكارثة الأكبر، أو ربما النكتة السوداء الأكثر إيلاما، تتمثل في ظهور شخصيات تُعتبر من ديناصورات السياسة السودانية، أولئك الذين تجاوزوا بقاؤهم في المشهد السياسي الفعلي كل حدود المنطق والعقل. على رأس هؤلاء، يبرز اسمٌ لا يمكن تجاوزُه دون ابتسامة مريرة، الديناصور فضل الله برمة ناصر، رئيس حزب الأمة القومي. اسمٌ يتردد صداه وكأنه قادمٌ من عصور جيولوجية سحيقة، أقدم من تاريخ السودان نفسه، بل ربما أقدم من شجرة التبلدي التي تحتضن اجتماعا سريا في ضواحي الأبيض. ماذا يمكن أن يضيف هذا الديناصور للسودان وهو على أعتاب العقد الثامن أو التاسع من عمره السياسي؟ هل نتوقع منه حلولا مبتكرة لقضايا الأمن والاقتصاد المعقدة؟ هل سيقود ثورة فكريةً تؤسس لعهد جديد من الشفافية والمساءلة، أم أنه سيُعيد لنا بذاكرته الثاقبة، تاريخ الصراعات الحزبية التي أوردت السودان موارد التهلكة؟ إن وجود أمثال هؤلاء في هكذا تشكيلة تأسيسية، هو بمثابة إعلان صريح أننا لم نخرج بعد من دائرة اللعب السياسي القديم، وإعادة تدوير الوجوه الفاشلة. إنها أشبه بمسرحية هزلية، حيث يُعاد تمثيل الأدوار القديمة بنفس الممثلين، لكن مع إضافة لمسة عصرية تتمثل في اسم حكومة السلام، الذي يغلف المشهد بسذاجة لا تُصدق. ********** المُغزى من إعلان حكومة التأسيس على هذا النحو، وبهذه الوجوه، لا يمكن أن يُفهم إلا كرسالة واضحة. نحن نريد أن نبقي على ما كان، لكن مع تغيير في اللافتة فقط. إنهم يتحدثون عن السودان الجديد والتأسيس، بينما كل خطوة يخطونها وكل وجه يظهر في كواليسهم، يصرخ بأنهم يمثلون السودان القديم بكل علله وأمراضه، إذ كيف يمكن لشجرة ذابلة أن تُثمر فواكه يانعة.. وكيف يمكن لبناية آيلة للسقوط أن تصبح أساسا لمدينة جديدة؟ هذا التناقض الجوهري ليس مجرد خطأ تكتيكي، بل هو جوهر فشل المشروع برمته قبل أن يبدأ. إن بناء السودان الجديدن يتطلب روحا جديدة، وعقليات مختلفة، وأجيالا لم تتلوث بعد بتركة الفشل السياسي المتراكم. يتطلب رؤيةً خلاقةً تستلهم من آلام الماضي دروسا للمستقبل، بدلا من إعادة إنتاج السيناريوهات البالية. ولك أن تتخيل المشهد، كبار السن يتحدثون بلغة شبابية عن تغيير جذري، بينما أفعالهم وتوجهاتهم لا تزيد عن إعادة استنساخ لماضي مؤلم. إنه أشبه بشخص يرتدي بذلةً فاخرة، بينما قلبه ينبض بنفس الخيبات القديمة. عزيزي القارئ.. ما حدث في نيالا، للأسف الشديد، لا يُعدو كونه نسخة طبق الأصل من السودان القديم -سودان الكوارث والنكبات، أو بعبارة أخرى، دولة 56 الثانية. إنها ليست فقط تكرارا للتاريخ، بل هي تكرارٌ لنفس الأخطاء التي أدت إلى فوضى الحاضر، حيث الاستقطاب الحزبي والسياسي، صراع النفوذ، غياب الرؤية الوطنية الجامعة، الاعتماد على الوجوه القديمة الكالحة، كل هذه المكونات التي كانت وصفةً جاهزة للفشل في الماضي، تعود لتظهر وبقوة في هذا الإعلان الجديد. ولو كانت النوايا صادقة في التأسيس لبناء سودان جديد، لكان البدء على الأقل بالأجيال الشابة التي لم تُحرق بأتون صراعات الماضي، ولَكان التركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة وبعيدة عن المحاصصات الحزبية والحركاتية، ولَكان الاهتمام بوضع المواطن في صميم أي مبادرة سياسية، ولكن ما نراه هو استنساخٌ لنفس الأخطاء، مع محاولة بائسة لتغيير العبوة دون تغيير المحتوى. السؤال الأخير الذي يطرح نفسه بقوة، ويحمل في طياته الكثير من المرارة، هو ..هل يعتقد هؤلاء الساسة أن الشعوب السودانية غبية لهذه الدرجة لتصدق أكاذيبهم؟ هل يعتقدون أن ذاكرة الشعوب التي عانت من الحروب والأزمات والوعود الكاذبة قد مُحيت تماما؟ إن الشعوب السودانية، على الرغم من كل ما مرت بها من مآسي وكوارث، تمتلك قدرا كبيرا من الوعي والفطنة، وقد اكتسبت من التجارب المُرّة، حصانةً ضد الخطابات الرنانة الخالية من المضمون.. هم يدركون جيدا الفرق بين التغيير الحقيقي وترقيع الأوضاع. إن هذا الاستهبال السياسي، لا يزيد إلا من إحساس العامة باليأس والإحباط، ويغذي حالة عدم الثقة المتزايدة بين المواطن والطبقة السياسية برمتها. إنها دعوة صريحةٌ لليأس، ورسالةٌ مفادها: لا تتوقعوا جديدا، فنحن هنا لإعادة إنتاج القديم، مع بعض التعديلات التجميلية. إن ما حدث في نيالا في يوليو 2025، ليس إيذانا بعصر جديد من السلام والتأسيس، بل هو صوتٌ خافتٌ يتردد صداه من ماض لا نريد له العودة. إنه تذكير قاس بأن طريق بناء السودان الجديد لا يزال طويلا وشاقا، وأن أولى خطواته يجب أن تكون بتوديع القديم بكل ما يحمل من وجوه وإرث سياسي متعفن. ليست هذه دعوة إلى اليأس، بل هي دعوة إلى الصحوة والوعي، فالمستقبل لا يُبنى بالوجوه البالية ولا بالخطابات المُعاد تدويرها. المستقبل يُبنى بالإرادة الحقيقية للتغيير، وبالعقول الشابة المبتكرة، وبفصل تام بين تاريخ الفشل السياسي والخطوات الجادة نحو بناء دولة تقوم على العدل والمساواة، بعيدا عن صالونات الديناصورات السياسية، التي لا تزيدنا إلا سخريةً ومرارة. لعل ما حدث في نيالا يكون بمثابة جرس إنذار أخير، يدفع الجميع للبحث عن مسار آخر، مسار حقيقي يؤسس لسودان، يليق بتضحيات شعوبه وتطلعات أجياله الصاعدة، وليس مجرد كوميديا سياسية جديدة تُضاف إلى سجل طويل من النكبات والكوارث؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة