ما حدث يوم أمس في "أم صميمة" لا يقرأ كمعركة تقليدية بل كنقطة تحول في مسار التكوين الإجتماعي والسياسي للسودان، حيث اصطدمت قوى الثورة الشعبية بالركائز المؤسسة للدولة الغنائمية التي شيدها نظام الكيزان عبر ثلاثة عقود من الاستبداد والإستغلال والهيمنة. من منظور علم الاجتماع السياسي، تتجلى الدولة الغنائمية كنموذج سلطوي يقوم على إعادة إنتاج السيطرة من خلال آليتين مركزيتين: أولًا، مصادرة الوعي عبر توظيف الدين كأداة تخدير، وثانيًا، تحويل مؤسسات الدولة إلى شبكات للنهب وتوزيع الامتيازات تحت مظلة الولاء لا الكفاءة. هذا النمط من السلطة، الذي وصفه بيير بورديو بأنه "هيمنة رمزية"، لا يعتمد فقط على العنف، بل على إدماج البسطاء في منظومة تُفقرهم اقتصاديًا وتستثمر في جهلهم ثقافيا. لقد أنتج الكيزان نظاما سوسيولوجيا يقوم على تهميش الأطراف وتجريف الهوية، حيث تم اختزال المركز في النخب وتهميش الهامش في خدمات مؤقتة وتوظيفات انتقائية. ولم يكن انقلابهم على الفترة الانتقالية سوى امتداد منطقي لعقلية الغنيمة التي ترى الوطن مجالاً للاستحواذ لا للمشاركة، وللسلطة وسيلة للإقصاء لا للبناء. لكن الثورة، وفقا لمدارس علم الاجتماع الحديثة، ليست مجرد رد فعل على الاستبداد، بل عملية إعادة تشكيل للمجال العام عبر استعادة السلطة المعرفية من يد الدولة الغنائمية. لقد بدأت هذه العملية حين فطن الكادحون والرعاة والمزارعون لطبيعة الصراع، لا باعتباره خلافا سياسيا، بل كإشكال سوسيولوجي يتعلّق بمن يُنتج السلطة ولمن تُوجّه. وفي يوم 30 يوليو 2025، تجلى هذا الوعي الثوري في "أم صميمة"، حيث شهدنا حدثا لا يُقاس بعدد القتلى والمصابين، بل بتمدد إرادة التحرر في الحقول والمراعي والقرى التي طالما كانت مهمّشة. سحق متحركات الفلول لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان تجسيدًا لسوسيولوجيا المقاومة الشعبية التي تجاوزت الانقسام بين المركز والهامش، وانتصرت لفكرة الدولة بوصفها عقدا اجتماعيا لا غنيمة. هذا الانتصار هو توكيدٌ على سقوط نموذج "دولة 56"، التي تأسست على المحاصصة والتوريث السياسي، واستمرت عبر أنظمة عسكرية ومدنية تتبادل أدوات القهر وتتقاطع عند استدامة الامتياز. علم الاجتماع يعلمنا أن الثورات لا تُقاس بشعاراتها بل بقدرتها على تفكيك أنساق الهيمنة وبناء بدائل معرفية، وهذا ما بدأت في ترسيخه جماهير الثورة حين جعلت من "أم صميمة" فضاءً لإعادة تعريف الوطنية، لا كمركز سلطوي بل كشبكة تشاركية تبدأ من الهامش ولا تنتهي عنده. آن الأوان لطي صفحة الدولة الغنائمية، لا عبر استبدال النخب، بل بتغيير طبيعة السلطة ذاتها. السودان الجديد لا يمكن أن يُدار من فوق، ولا أن يُبنى بمنطق الانقلاب، بل يتأسس حين تُستعاد العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس التعاقد، لا الهيمنة؛ وعلى أساس التوزيع العادل للثروة والمعرفة، لا احتكارها. الأشاوس الأبطال كتبوا يوم أمس في"أم صميمة" بالدم والصوت والهتاف، أن التاريخ لم يعد حكرا على من يملكون السلاح، بل لمن يملكون الوعي، ومن هذا الوعي تنطلق لحظة التأسيس الفلسفي للدولة السودانية الحديثة: كما هو وارد في ميثاق تأسيس الساعي لبناء دولة مدنية، عادلة تحقق تطلعات الشعب السوداني في حياة حرة كريمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة