حين يتحدث أحمد هارون، فإن شبح المؤتمر الوطني يخرج من تحت الركام. وفي توقيت سياسي بالغ الحساسية، عاد الرجل من الظل ليقدّم عرضاً سياسياً متعدد الطبقات عبر منصة إعلامية محسوبة. لكن العرض لم يكن موجهاً للجمهور، بل لقادة الجيش، وللمجتمع الدولي، ولضباط الظل الطامحين في قلب السلطة. تصريحات هارون الأخيرة ليست مجرد كلمات، بل تحمل خارطة طريق جديدة لمحاولة إعادة التمكين – لكن هذه المرة بوجه ناعم، وتحت عباءة الجيش. 🔹 أولاً: الجزرة المسمومة للبرهان في رسالة مباشرة، أعلن أحمد هارون أن المؤتمر الوطني لا يمانع في استمرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان في السلطة حتى بعد انتهاء الفترة الانتقالية. ليس ذلك فحسب، بل اقترح إجراء استفتاء شعبي على من يحكم البلاد – خطوة توحي بالديمقراطية لكنها في الواقع تحمل بين طياتها تكتيكًا قديمًا لطالما استخدمه النظام السابق لإعادة إنتاج شرعيته. هذا العرض ليس إلا جزرة سياسية ضخمة، يعرضها الإسلاميون على الجيش مقابل ضمانات للبقاء والمشاركة. كما أنه تكرار لمحاولات سابقة تم فيها إغراء المؤسسة العسكرية بالبقاء في السلطة مقابل شراكة خفية مع الإسلاميين، مثلما حدث في أواخر عهد البشير. 🔹 ثانيًا: التهديد غير المباشر للضباط الطامحين في ثنايا التصريحات، وجّه هارون رسالة تهديد ناعمة للبرهان: "لسنا متوقفين عليك وحدك". أي أن دعمهم قد يتحوّل إلى ضابط آخر، أكثر طموحًا وأقل تردّدًا. هذا النوع من الخطاب يعيد إلى الأذهان أسلوب المؤتمر الوطني في تفكيك المؤسسات من الداخل، كما فعلوا سابقًا حين استبدلوا القيادات المهنية داخل الجيش والشرطة بجنرالات موالين، كانت ولاءاتهم السياسية تسبق الكفاءة. 🔹 ثالثًا: خطاب التودد للمجتمع الدولي حاول هارون إرسال تطمينات واضحة للعواصم الغربية: لا رغبة لنا في السيطرة على الفترة الانتقالية، ولا مانع من إبعاد الإسلاميين مؤقتًا. لكنه يطالب – ببراغماتية خبيثة – بحق المؤتمر الوطني في خوض الانتخابات. هنا يعيد الإسلاميون تقديم أنفسهم كجزء "واقعي" من اللعبة السياسية، مستفيدين من تجارب إقليمية (كما حدث في تونس وليبيا)، حيث عاد الإسلاميون عبر صناديق الاقتراع بعد أن أعيد تأهيلهم دوليًا تحت شعار "الاعتدال". 🔹 رابعًا: التوقيت ليس بريئًا التصريحات جاءت قبيل اللقاء التشاوري المرتقب بين الفاعلين الدوليين بشأن السودان، وهو لقاء من المتوقع أن يناقش مستقبل العملية السياسية وسبل التعامل مع المكونات المختلفة، بما في ذلك الإسلاميين. وبالتالي، أراد هارون أن يضع المؤتمر الوطني على الطاولة كمكون لا يمكن تجاوزه، ويبعث برسالة تقول: "نحن هنا، ولنا مقاعد محجوزة، شئتم أم أبيتم." *من الذي يقرأ الخرائط داخل الجيش؟* ما فعله أحمد هارون لم يكن مجرد ظهور إعلامي، بل كان مناورة سياسية مكشوفة، تستند إلى مزيج من الترغيب والتهديد والمساومة. والأخطر من ذلك أنه قد يكون تمهيدًا لتحرك أكبر، لإعادة التمكين عبر واجهات جديدة. في ظل هذا المشهد، يجب أن تتحرك القوى المدنية سريعًا، ليس فقط لرفض تصريحات هارون، بل لتقديم خيارات واقعية تحمي البلاد من الانجراف مرة أخرى نحو قبضة الدولة العميقة.
" في السياسة، لا توجد فراغات. وإن لم تملأها قوى الثورة، فسيملأها خصومها – كما فعلوا مرارًا "
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة