في خضم الأزمة الوجودية التي تعصف بالسودان، وحيث تتهاوى هياكل الدولة تحت وطأة صراع مسلح مدمر، يبرز (البيان المشترك) الصادر عن منشقي حزب الأمة القومي ومفصولي التجمع الاتحادي. هذه الوثيقة، التي تدّعي السعي نحو السلام الدائم والنظام الدستوري، تكشف في جوهرها عن تناقضات هيكلية عميقة تُقوض مصداقيتها السياسية.
يبدأ البيان بسرد تقليدي عن (القضايا الوطنية الاستراتيجية والتحديات الجسيمة)، وهي صياغة أصبحت مألوفة في الخطاب السياسي السوداني، لكنها تفتقر إلى العمق في تحليل جذور الأزمة. هذا السرد التقليدي بحد ذاته، يكشف أن البيان في جوهره ليس إلا مانيفستو انتهازي يستخدم لغة خشبية واضحة، هدفها البحث عن الشرعية السياسية، حتى لو كان ذلك بالارتماء تحت أقدام العسكر في ظل ظروف الحرب الراهنة.
الانزلاق الحاسم يأتي مع الدعوة إلى بناء كتلة وطنية صلبة تدعم (مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القوات المسلحة). هذا التركيز الانتقائي على المؤسسة العسكرية كطرف في نزاع مسلح، يمثل مغالطة سياسية خطيرة. فالجيش، بوصفه أحد الأطراف الرئيسية في الحرب الجارية، والمتهم بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق، لا يمكن أن يُقدم بوصفه (الكيان الحيادي) الذي يمثل الدولة بمفهومها الشامل والسيادي. هذه الصياغة لا تعدو كونها تقويضًا لمفهوم الدولة المدنية، وتكريسًا لنموذج يرسخ هيمنة المكون العسكري على المشهد السياسي، متجاهلاً مبادئ الفصل بين السلطات والخضوع للسلطة المدنية المنتخبة.
أما طرح (الطريق الثالث) فهو يفتقر إلى الأسس الموضوعية. أي مسار بديل هذا الذي ينطلق من بوابة دعم طرف رئيسي في الحرب؟ هذا ليس طريقًا ثالثًا، بل هو مسار يعيد إنتاج ديناميكيات الصراع، عبر الالتفاف حول المطالب الأساسية بالعدالة والتحول الديمقراطي. إن دعم القوات المسلحة، مع الدعوة إلى حل جميع الميليشيات وضرورة إصلاح الجيش والقوات النظامية الأخرى، ينطوي على مفارقة صادمة. فالمؤسسة العسكرية، التي تقود الحرب وتواجه اتهامات بالانتهاكات، لا يمكن أن تكون هي ذاتها الضامن أو القائد لعملية إصلاح مستقلة وشفافة. هذه الدعوة لإصلاح ذاتي من قبل طرف متورط بشكل مباشر في الأزمة، تثير شكوكًا جدية حول مدى جدية هذا الإصلاح وحياديته، وتُفسر كغطاء سياسي لتثبيت سيطرة معينة على هذه المؤسسات.
إن تبني هذا الموقف المنحاز لا يخدم فقط استمرار الحرب، بل يقوّض أي جهود مستقبلية لحل سياسي شامل. فهو يفرض منطق المنتصر والمهزوم، مما يُصعب إمكانية بناء الثقة بين الأطراف ويُعقد مسارات التفاوض، وبالتالي يُطيل أمد الصراع ويُعيق إعادة بناء الدولة.
إن هذا البيان لا يعكس مسؤولية وطنية بقدر ما يعكس انتهازية سياسية واضحة. إنه يهدف إلى تحقيق مكاسب فئوية وشخصية في سياق حرب مدمرة، متجاهلاً معاناة الشعب السوداني. اختيار منشقي حزب الأمة ومفصولي التجمع الاتحادي للتحالف مع الجيش والإسلاميين، الذين كانوا خصومًا سياسيين في مراحل سابقة، يشير إلى تحالف مصالح تكتيكي يفتقر إلى رؤية استراتيجية جامعة للمستقبل السوداني.
إن ادعاء الوطنية في هذا السياق، يصبح مجرد أداة لتضليل الرأي العام وتبييض المواقف، بهدف ضمان موطئ قدم في أي ترتيبات سياسية قادمة، حتى لو كان ذلك على حساب تطلعات الشعب للتحول الديمقراطي والعدالة.
تكمن المأساة الحقيقية في أن هذا البيان لا يمثل حالة استثنائية، بل يعكس نمطًا متكررًا من التقلبات السياسية التي تعاني منها بعض النخب السودانية. فبينما يغرق السودان في دوامة العنف والدمار، وتتفاقم الأزمة الإنسانية، تخرج هذه البيانات لتؤكد أن بعض الفاعلين السياسيين منفصلون عن الواقع المعاش، وغير مكترثين إلا لحساباتهم الضيقة.
إن تركيز البيان شبه الكامل على الجانبين السياسي والعسكري، رغم إشارته العابرة إلى تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، يُظهر غيابًا واضحًا لأي رؤية عملية أو تفصيلية للتعامل مع الانهيار الاقتصادي، أو تدمير البنى التحتية. هذا التناول السطحي للجوانب الإنسانية والاقتصادية، دون تقديم حلول أو آليات، يشير إلى أن أولويات أصحاب البيان تنصب على التموضع السياسي، لا على معالجة الأسباب الجذرية للأزمة أو معاناة المواطنين.
هذا الغياب للرؤية الشاملة يؤكد أنهم يفتقرون إلى فهم عميق لمتطلبات بناء الدولة ما بعد الصراع. البيان يتحدث عن (الشعب) و(جميع السودانيين) بشكل مجرد وفضفاض، لكنه يتجاهل تمامًا التطلعات الحقيقية للمجتمع المدني، وتضحياته، ومطالبه الصارمة بالمساءلة والتحول الديمقراطي الكامل. إنه انفصال صارخ عن نبض الشارع، مما يجعله وثيقة تفتقر إلى العمق والصدق، ولا تخدم سوى المصالح الضيقة لمن صاغها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة