في قلب جهود التسوية السياسية القادمة في السودان يبرز اسم الحفيان بوصفه شخصية محورية في ترتيب الأوضاع في بورتسودان، الميناء الاستراتيجي الذي صار شريان الدولة المحاصرة بالحرب. لكن ما الذي يجعل هذا الرجل لاعبًا أساسيًا؟ وما هي حقيقة مشروعه: إصلاح تقني أم إعادة تدوير للسلطة القديمة؟
أهم ما يميز الحفيان هو قدرته على الجمع بين "اللغة الفنية" التي تروق للمانحين الغربيين والمؤسسات المالية، وبين قرابة وصلات خاصة مع الدائرة العسكرية بقيادة البرهان. هذه "الشرعية المزدوجة" تمنحه قدرة على التفاوض مع قوى خارجية تطلب الحوكمة من جهة، ومع النخبة الأمنية الحاكمة من جهة أخرى. لكن هذا الجمع ليس بريئًا. فهو يرسخ مفارقة أخلاقية: شرعيته الدولية قائمة على تقديم نفسه كإصلاحي مستقل لكنها في الواقع مبنية على خدمة نظام غير شرعي يعيد إنتاج سلطته بالعنف.
يُعرف عن الحفيان قدرته الخاصة على "تفكيك" المطالب السياسية إلى بنود إدارية. مثلًا، بدلاً من التعامل مع مطلب نزع سلاح الميليشيات بوصفه قضية سيادية وأخلاقية، يحوله إلى "إعادة هيكلة أمنية" قابلة للتفاوض مع المانحين. هذا التكتيك يطمئن الداعمين الأجانب لكنه يفرغ القضايا المصيرية من بعدها الأخلاقي، ويؤجل حلها الحقيقي. في بورتسودان يظهر هذا النمط بوضوح، إذ يركز الحفيان على "إدارة الانهيار" وتقليل كلفته، محوّلًا الدولة فعليًا إلى مشروع إغاثة مؤقت.
لدى الحفيان قدرة ملحوظة على استغلال الانقسامات بين الإسلاميين، مكونًا تحالفات مرنة.\ يمنح بعضهم امتيازات تشغيلية في الميناء مقابل دعم سياسي، ويُطمئن آخرين عبر إشراكهم في لجان محلية. هذه القدرة على توزيع الشرعيات تمنع خصومه من التوحد ضده. لكن هذه التكتيكات، رغم نجاحها المرحلي، تعيد إنتاج النظام القديم بأدوات جديدة. \ فهي لا تزيل شبكات المحسوبية ولا تفتح المجال لسياسة ديمقراطية شفافة، بل تعيد ترسيم خريطة النفوذ وفق توازنات زبائنية جديدة.
بورتسودان ليس مجرد ميناء. إنه العقدة التي تلتقي عندها مصالح دولية متشابكة. المحور الغربي، ممثلًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يدعم الحفيان بوصفه "تكنوقراطًا محايدًا"، من خلال تسهيل المساعدات ومنحه دورًا في المفاوضات مع البنك الدولي. هدفهم ضمان استمرار صادرات النفط الجنوبي ومنع تحول السودان إلى ملاذ للفوضى والإرهاب. دول الخليج، وتحديدًا الإمارات والسعودية، تمول مشاريعه الإصلاحية المعلنة وتضغط على البرهان لقبول خططه، مدفوعة بحماية استثماراتها في الموانئ والزراعة وإضعاف الإسلاميين دون القضاء التام عليهم حتى لا يختل التوازن تمامًا. المؤسسات المالية الدولية تروّج له بوصفه مستشارًا معتمدًا للإصلاح الهيكلي، وتمنحه تسهيلات في شروط القروض بهدف ضمان سداد الديون واختبار نموذج "الإصلاح من الداخل" في دول هشة.
دور الحفيان في بورتسودان يتجاوز كونه موظفًا إداريًا، فهو وسيط التمويل الذي يترجم المساعدات الخليجية إلى مشاريع بنية تحتية، مع منح الأفضلية في العمليات التجارية للسفن الخليجية. وهو حارس المصالح الخارجية الذي يضمن استمرار تصدير ذهب دارفور (ومعظمه يذهب إلى شركات إماراتية) ويقمع أي احتجاجات قد تعطل الميناء. كذلك هو مهندس التحالفات الأمنية الذي يعيد انتشار الجيش تحت ذريعة "مكافحة التهريب"، ويفتح الباب لشركات أمنية خليجية لحماية المنشآت. في الوقت نفسه يعمل موزعًا للشرعيات يمنح تراخيص تشغيل لشركات مقربة من الإسلاميين ويوزع أراضي المنطقة الحرة على رجال أعمال موالين للبرهان. وهو أيضًا صانع التوازنات الدولية الذي يفاوض الروس والصينيين على امتيازات في الميناء مقابل دعم سياسي في مجلس الأمن أو استثمارات حيوية. رغم ما يبدو من دعم خارجي واسع، الحفيان ليس في موقع حصين. المحور الغربي قد يتخلى عنه إذا فشلت إصلاحاته في تحقيق استقرار سياسي حقيقي، كما تخلّى سابقًا عن حميدتي. ودول الخليج قد تستبدله إذا بالغ في كبح الإسلاميين إلى حد يهدد مصالحهم الاقتصادية. أما المؤسسات المالية الدولية، فقد تنقلب عليه إذا انكشفت شبكات الفساد المرتبطة به، في تكرار محتمل للسيناريو الليبي.
الحفيان ليس مشروع زعامة وطنية، بل نموذج "التكنوقراطي العابر" الذي يروّج له المجتمع الدولي في الدول المنهارة. قوته مستعارة من داعميه الخارجيين ومن صلاته العسكرية. إصلاحاته مشروطة ومحدودة، لا تمس البنية العميقة للفساد ولا تفكك شبكات التهريب والتمويل الموازي. باختصار، التوازنات التي يبنيها في بورتسودان اليوم ليست حلًا للأزمة، بل تأجيلاً مدفوع الثمن لانهيار أكبر. السودان لا يحتاج لمهندس إداري يدير الأزمة، بل إلى جراح سياسي يقطع غدة الفساد النظامي ويفتح الباب أمام عملية سياسية حقيقية تعيد للسودانيين حقهم في تقرير مصيرهم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة