ليلٌ ينسى ودائعه» لجوخة الحارثي: كتابة القصة كفعل مقاومة للنسيان بقلم: زهير عثمان
مقدمة في مجموعتها القصصية الأحدث «ليلٌ ينسى ودائعه» (2025)، تقدم جوخة الحارثي تجربة سردية متميزة ضمن الأدب العربي المعاصر. تتألف المجموعة من عشر قصص قصيرة تشكل معًا فسيفساء معقدة تستكشف الذاكرة، الغياب الهوية، والخيانة الوجودية التي يمثلها النسيان.
العنوان نفسه يحمل مفارقة فلسفية: الليل، الذي يُفترض أن يكون حافظًا للأسرار، يخون ودائعه وينساها. هذه المفارقة تتجلى كفكرة مركزية تربط القصص، حيث لا شيء مضمون في ظلال الذاكرة، ولا أحد في مأمن من التلاشي.
في هذه القراءة النقدية، نسلط الضوء على قصة «قنديل للمرأة الأخرى» كنموذج لأسلوب الحارثي وثيماتها، مع تحليل أسلوبي وتأويلي معمق للمجموعة ككل.
القصة المختارة: «قنديل للمرأة الأخرى» الملخص في هذه القصة، تتسلل امرأة وحيدة إلى بيت قديم مهجور كان يومًا مأوى لـ«المرأة الأخرى» التي أحبها زوجها. في ظلام الليل، تشعل قنديلًا باهتًا تركته تلك الغائبة، فيكشف الضوء عن الغبار المتراكم، الأثاث المهمل، والهدايا المنسية.
تتساءل البطلة: هل شعرت تلك المرأة بالخوف؟ هل كانت سعيدة؟ في النهاية، تطفئ القنديل وتغادر البيت خالية اليدين، محملة بالأسئلة دون إجابات.
الدلالة الرمزية القنديل: يمثل أداة كشف، لكنه باهت، يضيء الحقيقة جزئيًا ويثير الخوف في الوقت ذاته. رمز للذاكرة الناقصة التي تكشف وتخفي معًا. البيت: فضاء رمزي للذاكرة المخونة، يحتفظ بآثار الماضي لكنه عاجز عن إحيائها. المرأة الأخرى: ليست مجرد منافسة، بل مرآة تعكس مخاوف البطلة وهشاشتها الوجودية. الغبار والأشياء المهملة: بقايا العلاقات والمشاعر التي نُسيت أو أُهملت، رمز للزمن الذي يمحو كل شيء.
التأويل القصة ليست مجرد حكاية عن غيرة أو خيانة، بل مواجهة عميقة مع الذات. البطلة تتساءل: «هل أنا مثلها؟ هل سأُنسى أنا أيضًا؟». القنديل هنا ليس فقط وسيلة للرؤية، بل أداة للتأمل الذاتي، حيث تواجه البطلة خوفها من التلاشي.
القصة تطرح سؤالًا وجوديًا ملحًا: كيف نحصّن ذواتنا من محوٍ لا يرحم؟
قراءة أسلوبية دقيقة جوخة الحارثي تتميز بأسلوب سردي متقشف وشعري يعتمد على الإيجاز اللغوي الفني العميق والرمزية. فيما يلي تحليل دقيق لعناصر أسلوبها في «ليلٌ ينسى ودائعه»:
الإيجاز اللغوي الفني العميق تستخدم الحارثي جملًا قصيرة مشحونة، خالية من الزخرفة اللفظية أو الشروح الانفعالية المباشرة. الأثر: يُجبر القارئ على ملء الفجوات بنفسه، مما يجعله شريكًا في صناعة المعنى. هذا الأسلوب يعزز التفاعل الفكري والعاطفي مع النص.
الصور الحسية تعتمد على الروائح (رائحة الغبار)، الألوان (ضوء القنديل الباهت)، والأصوات (صمت البيت المهجور) لخلق تجربة حسية غامرة. الأثر: تحول التجربة اليومية إلى نافذة على الأسئلة الوجودية الكبرى.
البنية المفتوحة تنتهي قصص المجموعة بنهايات مفتوحة دون تقديم حلول أو إجابات نهائية. الأثر: تتحول القصص إلى قصائد سردية، حيث يُكتسب المعنى من خلال التأمل والقراءة المتكررة.
الإيقاع الداخلي تستخدم التكرار الصوتي، التوازي في الجمل، والصمت المدروس لخلق إيقاع شعري. الأثر: يعوض غياب الحبكة التقليدية بتجربة إيقاعية تشد القارئ وتحافظ على انسجام النص.
التناص الداخلي تتكرر رموز مثل القنديل، الهدية، الودائع، والليل عبر القصص، مما يخلق شبكة من المعاني المترابطة. الأثر: تجعل المجموعة وحدة فنية متماسكة رغم تنوع قصصها.
الثيمات الكبرى الفقد، الهوية، الذاكرة، العلاقة مع الآخر. الأثر: تتجاوز القصص الأحداث السطحية لتصبح تأملات فلسفية في الوجود الإنساني.
نقد تأويلي عميق «ليلٌ ينسى ودائعه» ليس مجرد مجموعة قصصية، بل مختبر سردي يستكشف الذاكرة المراوغة والهشاشة الإنسانية. الليل في هذه المجموعة ليس ستارًا يحمي الأسرار، بل خيانة تكشف هشاشة الودائع. النسيان ليس راحة بل عنف وجودي يهدد الهوية.
الودائع، سواء كانت ذكريات أو علاقات، معرضة دائمًا للتلاشي. من خلال هذه الثيمات، تقدم الحارثي القصة القصيرة كفعل مقاومة ضد النسيان، كإضاءة خافتة لكنها صادقة في ظلمة الوجود. إنها تدعونا للتأمل في كيفية الحفاظ على ذواتنا وذكرياتنا في عالم يميل إلى المحو.
جوخة الحارثي: السيرة الأدبية جاءت تجربة جوخة الحارثي الأدبية امتدادًا لوعي لغوي عميق وتكوين أكاديمي صلب في الأدب الكلاسيكي، مما أتاح لها الجمع بين التراث والتجريب السردي المعاصر. فيما يلي أبرز محطات مسيرتها الأدبية:
المعلومات الشخصية الاسم الكامل: جوخة خلفان سيف الحارثي الجنسية: عمانية الميلاد: 1978، ولاية بهلاء، سلطنة عمان الدرجة العلمية: دكتوراه في الأدب العربي الكلاسيكي – جامعة إدنبرة المهنة: أستاذة جامعية في جامعة السلطان قابوس
أهم أعمالها المجموعات القصصية:
مقاطع من سيرة لبنى حين آن الرحيل (2001)
ملاحظة حول مربية
حروف الطين
ليلٌ ينسى ودائعه (2025)
الروايات:
منامات (2004)
سيدات القمر (2010) – الفائزة بجائزة Man Booker International 2019
نَرْجِنج (2016) – الفائزة بجائزة السلطان قابوس
حرير الغزالة (2021) – تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان Bitter Orange Tree (2022)
الترجمات والانتشار:
تُرجمت أعمالها إلى أكثر من 20 لغة، منها الإنجليزية، الفرنسية، والألمانية.
وصلت إلى قوائم عالمية مرموقة مثل قائمة TIME لأفضل الكتب.
السمات الأسلوبية:
لغة شعرية مكثفة ومتقشفة.
بنية سردية متعددة الأصوات.
مزج الذاكرة الفردية والجماعية.
تركيز على قضايا المرأة، الهوية، والفقد. * تؤكد «ليلٌ ينسى ودائعه» مكانة جوخة الحارثي كواحدة من أبرز كتّاب القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث. من خلال لغتها المقتصدة، صورها الحسية، وبنيتها المفتوحة، تقدم الحارثي أدبًا يقاوم النسيان ويضيء زوايا الوجود الإنساني. مجموعتها ليست مجرد قصص، بل تأملات فلسفية عميقة تدعو القارئ لمواجهة أسئلة الهوية والذاكرة. إنها إضاءة خافتة في عتمة الذاكرة، لكنها تظل قادرة على أن تكشف أكثر مما تُخفي، مما يجعل هذا العمل جديرًا بالتأمل والقراءة المتكررة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة