السودان، الذي عانى من سنوات الحرب والانقسام، يقف اليوم أمام حالة عجز شاملة وفقر سياسي لإنتاج مشروع وطني ووقف الحرب اللعينة، فإما مواصلة السير في دروب الموت المجاني، أو بناء مشروع وطني جامع يُعيد الروح إلى وطن غارق في دماء أبناءه وما زال يئن تحت زخات الرصاص. تجربة رواندا بعد الإبادة، وجنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري، والبوسنة بعد الحرب، تُثبت أن وقف الحرب ممكن وإعادة البناء ممكنة إذا توفرت الإرادة والرؤية لمشروع وطني نهضوي. أولا: مقترح عملي لوقف الحرب الأهلية بين الجيش والدعم السريع: استنادًا إلى التجارب الدولية الناجحة في إنهاء الحروب الأهلية، يمكن اقتراح تبني مسار ثلاثي الأبعاد يجمع بين المصالحة، إعادة الهيكلة، والضمانات الدولية: 1. إطلاق لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة، تُشكل من شخصيات مستقلة وممثلي المجتمع المدني، وتستمع لشهادات الضحايا والجناة كما حدث في جنوب أفريقيا تُركز على الاعتراف بالانتهاكات، وتقديم اعتذارات علنية، وجبر الضرر دون انتقام 2. إعادة هيكلة القوات المسلحة، دمج قوات الدعم السريع والحركات للمؤهلين منهم تدريجيًا في الجيش وفق جدول زمني واقعي (كما اقترح في اتفاق جدة)، مع إعادة تدريب عقائدي ووطني وإنشاء جيش قومي غير حزبي، كما فعلت رواندا بعد الإبادة، لضمان وحدة القرار العسكري ومنع الجيش من التدخل في السياسة والاقتصاد وفصل كل من له انتماء حزبي. 3. ضمانات دولية وإقليمية، إشراك الاتحاد الأفريقي، الإيغاد، والأمم المتحدة كمراقبين وضامنين لتنفيذ الاتفاق. • نشر قوات حفظ سلام مؤقتة في المناطق الحساسة، كما حدث في البوسنة، لحماية المدنيين ومنع الانتهاكات. 4. تحويل الخرطوم والمدن والقرى إلى مناطق منزوعة السلاح مؤقتًا، كما اقترحت خطة الاتحاد الأفريقي للخرطوم ويمكن تعميمها، تُنقل القوات إلى مراكز تجميع خارج المدن، وتُدار العاصمة مدنيًا والولايات والمدن أيضاً. 5. إطلاق مؤتمر تأسيسي جامع، يضم ممثلين من الجيش، الدعم السريع، القوى المدنية السياسية، الحركات المسلحة، والجهات التقليدية يُناقش مستقبل الحكم، العدالة الانتقالية، والدستور الجديد. المصالحة أولًا: مواجهة الماضي والحاضر لتأسيس المستقبل: العدالة لا تُبنى على الانتقام، بل على المصارحة. في رواندا، ساهمت محاكم “غاشاشا” الشعبية في إعادة الثقة بين المواطنين، بينما مكّنت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا الضحايا من سرد آلامهم والمرتكبين من الاعتراف. السودان يحتاج إلى لجنة وطنية شجاعة تفتح أبواب الحقيقة، وتُداوي الجراح، وتؤسس لعدالة انتقالية يُشارك فيها المجتمع، وليس فقط النخبة. بالتوازي، يجب حظر الخطاب العنصري والجهوي، واستبداله بمنظومة تعليمية وإعلامية تُعزز الهوية السودانية الجامعة، لا الانتماءات الضيقة. في رواندا يمنع ان تسأل عن القبيلة سواء توتسي او هوتو فاذا فعلت تتعرض للمحاكمة وتدخل السجن وعلينا سن قوانيين بمنع ادخال القبيلة في الاوراق الرسمية واختيار ادارات حديثة لا تقوم على القبيلة بل بالانتخاب وتفكيك المنظومات القبلية التقليدية التي خلقها المستعمر لتساعده في اخضاع المجتمعات المحلية وتم تطبيق التجربة في نيجيريا اولا وواصل الحكم الوطني في ان يكون استمرار للاستعمار وسياساته في ثوب وطني. إعادة هيكلة الدولة: من الانقسام إلى المهنية: الجيش، الشرطة، القضاء والخدمة المدنية، كل مؤسسات الدولة تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية، تُخرجها من عباءة الولاء الحزبي أو القبلي، وتُعيد لها وظيفتها الوطنية الخالصة. كما يجب تفعيل آليات رقابة فعّالة ومستقلة، وتطبيق سياسات صارمة لمكافحة الفساد عبر أنظمة شفافة ومفتوحة للمساءلة. الإنسان أولًا: التعليم والصحة قبل البنية التحتية: لا يمكن أن تُبنى دولة حديثة دون الاستثمار في الإنسان. رواندا أثبتت أن النهضة تبدأ من المدرسة والمستشفى، حيث وصل التعليم الابتدائي فيها إلى 99%، وتوفّرت التغطية الصحية للجميع. السودان بحاجة إلى مشروع تنموي يضع التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة كأولوية استراتيجية، إلى جانب تمكين المرأة والشباب، خاصة في المناطق التي دمرتها الحرب. اقتصاد تنموي عادل: من المركز إلى الأطراف: العدالة الاقتصادية لا تعني فقط زيادة الناتج المحلي، بل تعني أن يشعر المواطن في دارفور أو في ربك بأن التنمية تصل إليه كما تصل إلى العاصمة. السودان بثرواته الزراعية والمعدنية، قادر على بناء اقتصاد متنوع يشمل الزراعة، الطاقة، السياحة، والصناعة الخفيفة والتكنولوجيا. المطلوب هو إرادة توزيع الموارد بعدل، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي في بيئة قانونية شفافة. فبدل ان ننقل المدينة للريف نقلنا الريف للمدينة في عملية عكسية. نحو ديمقراطية حقيقية: لا يُمكن الحديث عن الدولة دون الحديث عن الديمقراطية. المطلوب هو مؤتمر تأسيسي يشمل كافة أطياف المجتمع لصياغة دستور يعبر عن الإرادة الشعبية، وتنظيم انتخابات حرة بإشراف دولي، وضمان حريات التعبير، التنظيم، والتداول السلمي للسلطة. فهذا امر يمكن ان تتفق عليه القوى السياسية وتجد له قبول وطني وإقليمي ودولي. من الحرب إلى المشروع الوطني: السودان لا تنقصه الإمكانات، بل تنقصه البوصلة والقيادة. تجربة رواندا تثبت أن الحُطام يمكن أن يتحول إلى بناء، إذا كانت هناك إرادة حقيقية. السودان يستطيع تجاوز الحرب إذا ما اجتمع على مشروع يُعلي الإنسان، ويؤسس للعدالة والمشاركة، ويُعيد تعريف الوطن بوصفه بيتًا يتسع للجميع. إبعاد الجيش عن السياسة ومنع الانقلابات العسكرية: هو مسار طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلًا. تجارب جنوب أوروبا وافريقيا، تركيا، وأمريكا الجنوبية تقدم نماذج متنوعة لكيفية تحقيق ذلك، عبر إصلاحات دستورية، ثقافية، ومؤسساتية. كنت قد كتبت ورقة عن الجيش والسياسة قبل الانقلاب اهم ما ورد فيها ادناه كعرض تحليلي لأبرز هذه التجارب: جنوب أوروبا: التحول الديمقراطي بقيادة الجيش نفسه البرتغال – “ثورة القرنفل” 1974: • قاد الجيش انقلابًا ضد الديكتاتورية، لكنه عاد سريعًا إلى الثكنات بعد تأسيس نظام ديمقراطي. • تم إنشاء حركة القوات المسلحة (MFA) التي وضعت خارطة طريق للتحول الديمقراطي. • أُجريت انتخابات حرة، وتم دمج الجيش في النظام الجديد كمؤسسة وطنية غير حزبية. • تم تعديل الدستور ليمنع تدخل الجيش في السياسة، مع الحفاظ على دوره الدفاعي فقط. إسبانيا واليونان: • بعد سقوط الأنظمة العسكرية، تم إصلاح العلاقات المدنية العسكرية عبر تقليص صلاحيات الجيش في الدستور. • إخضاع المؤسسة العسكرية للرقابة البرلمانية. • تعزيز الثقافة الديمقراطية داخل الجيش عبر التعليم والتدريب. تركيا: من الوصاية العسكرية إلى السيطرة المدنية: • منذ تأسيس الجمهورية، كان الجيش يعتبر نفسه “حامي العلمانية”، وتدخل مرارًا في السياسة. • بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، بدأت إصلاحات تدريجية، تعديل قوانين مجلس الأمن الوطني لتصبح مدنية. • تعيين أمين عام مدني للمجلس لأول مرة. • إخضاع الجيش للمساءلة القضائية، ومحاكمة قادة الانقلابات (مثل قضية “المطرقة”). • تقليص دور الجيش في التعليم والإعلام والقضاء. • تم تحييد الجيش دستوريًا، رغم بقاء بعض التوترات بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية. أمريكا الجنوبية: من الانقلابات إلى الديمقراطية الشعبية تشيلي – بعد انقلاب 1973 • بعد نهاية حكم بينوشيه، تم إصلاح الدستور لتقليص دور الجيش. • تم تعزيز دور الأحزاب المدنية، وإعادة بناء الثقة بين الجيش والمجتمع. البرازيل والأرجنتين: • بعد عقود من الحكم العسكري، تم إخضاع الجيش لرقابة مدنية صارمة. • منع العسكريين من الترشح أو تولي مناصب سياسية أثناء الخدمة. • إنشاء لجان الحقيقة والمصالحة لكشف جرائم الأنظمة العسكرية. فنزويلا وبوليفيا: • رغم وجود حكومات يسارية منتخبة، بقي الجيش لاعبًا سياسيًا في بعض الفترات. • التجربة تُظهر أن التحول الديمقراطي لا يكتمل دون إصلاح ثقافة الجيش، وليس فقط قوانينه. دروس مشتركة من التجارب الثلاث: 1. إصلاح دستوري واضح: يمنع تدخل الجيش في السياسة، ويحدد دوره الدفاعي فقط. 2. رقابة مدنية فعالة: عبر البرلمان، القضاء، والإعلام الحر. 3. ثقافة داخلية غير حزبية: تدريب الضباط على الولاء للدستور لا للحزب، أو الطائفة، او القبيلة، او الجهة. 4. دمج الجيش في المشروع الوطني: عبر إعادة تعريف الهوية الوطنية الجامعة. 5. محاسبة تاريخية: عبر لجان الحقيقة والمصالحة، لكشف جرائم الماضي وبناء الثقة. ختاما، هذه خطوط عريضة للتأمل علها تفتح نافذة حوار للتركيز على المستقبل وعدم التكهف في الماضي إلا بغرض اخذ الدروس والعبر ودراسة التجارب الناجحة من حولنا. فهل نستطيع وقف الحرب وبناء السلام والدولة ام سوف تتواصل اراقة الدماء لسنوات قادمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة