في مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور السوداني، حيث تنكسر الشمسُ إجلالًا على سيوف المقاومة، وتلتقي الجغرافيا بالتاريخ، سطّر الجيش السوداني وحلفاؤه في الأيام الماضية صفحة أخرى من صمود لا يعرف الخنوع. معركة «شنب الأسد» لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل كانت عنوانا رمزيا لصراع بين مشروعين: مشروع وطني يقاتل بثبات في سبيل استعادة الدولة، وآخر مسلح مأجور يترنح تحت وطأة الفشل المتكرر والهزائم المذلة.
من جانبها أعلنت مصادر في القوات المشتركة المتحالفة مع الجيش أن هذه المعركة أسفرت عن الهزيمة رقم 220 على التوالي لمليشيا الدعم السريع المتمردة. وهو رقم لا يُستهان به، ويستدعي وقفة تأمل عميق. ففي علم الاستراتيجية العسكرية، تكرار الهزيمة بهذه الوتيرة دون تعديل في الخطط أو مراجعة في القيادة لا يُعدّ فقط فشلاً، بل فضيحة عسكرية وتنظيمية. فقوة عسكرية تنهزم عشرات المرات ثم تعود للكرّة دون أن تغيّر نهجها أو تقييم خياراتها، لا يمكن النظر إليها كقوة راشدة تقاتل من أجل أهداف واضحة، بل كأداة طائشة تُقاد نحو الجبهات لتُستنزف بلا وعي ولا بوصلة.
قد يظن البعض أن هذه النتائج الكارثية تعكس ببساطة ضعفاً في القدرات أو خللاً في الإدارة، لكن السؤال الأهم الذي يتجاوز سطح الهزائم هو: لماذا تستمر هذه المليشيا في الزجّ بنفسها في معارك خاسرة دون أدنى مؤشرات للتعلم أو التراجع؟ هل نحن أمام قيادة عاجزة عن الفهم العسكري؟ أم أن هناك أجندات خفية تدفع بهذه القوة نحو الهلاك الممنهج؟ أم لعلها تتغذى على الفوضى ولا ترى في النصر مصلحة؟ الاحتمالات كلها تفتح على بعضها، وكلها، للأسف، تجعل من امكانية التعايش معها واعتدتها لجسد الدولة أمر شبه مستحيل.
ربما تكون قيادة مليشيا الدعم السريع غير مؤهلة لإدارة معركة بهذا الحجم والتعقيد. فالمعارك الكبرى تُخاض بالعقول قبل البنادق، وبالخبرة قبل الحماسة، وبالانضباط لا بالغنائم. وحين تُترك قوة مسلحة بهذا الحجم في يد من لم يُجرّب الحرب إلا في قهر المدنيين أو السطو على المدن وقطع الطريق، فلا عجب أن تكون النتيجة هزائم متتالية وسقوطا مدويا في كل ميدان.
لكن من جهة أخرى، يذهب بعض المراقبين إلى أن هذه المليشيا لا تقاتل من أجل النصر أصلاً، بل من أجل استمرار الحرب ذاتها. فكل يوم إضافي في النزاع يعني مزيدا من تعزيز محاولات نهب ثروات البلاد، واستمرارا لمنظومة اقتصادية طفيلية تنمو على الفوضى. ولعل الجهات التي تقف وراءها، سواء كانت إقليمية أو دولية، لا تأبه بخسائرها ما دام المشروع الأكبر يتحقق: تفكيك الدولة، واستنزاف جيشها، وتحطيم وحدتها الوطنية.
في هذا السياق، تصبح الهزائم المتكررة مجرد أوراق ضغط سياسية، تُستخدم في التفاوض، وتُقدَّم لاحقا كأثمان لتسويات مشبوهة. لا بأس بالخسارة على الأرض ما دامت ستحصد مكاسب على الطاولة. إنها لعبة قذرة، تُدار بالدم، وتُحصى أرباحها بالدولار.
وهناك أيضا وهمٌ راسخ في عقل قادة مليشيا الدعم السريع، وهو أنهم يملكون من القوة والمال والدعم الخارجي ما يعوّضهم عن أي خسارة. يظنون أن علاقاتهم ببعض العواصم الإقليمية كافية لإنقاذهم عند الحاجة. لكن الميدان لا يعترف بالأوهام. الفاشر وشوارعها كانت كفيلة بتلقينهم درسا قاسيا في الوطنية، مفاده أن الأرض لا تُحتل بالخيانة، بل تُسترد بالدماء.
ومعركة «شنب الأسد» لم تكن فقط هزيمة جديدة لمليشيا الدعم السريع، بل كانت انتصارا أخلاقيا ومعنويا للجيش والمقاومة الشعبية والقوات المشتركة والمستنفرين من عامة الشعب، الذين أثبتوا أن النصر لا يُقاس بعدد المدرعات، بل بصدق العقيدة. وكما وصفها مراقبون، فإن «شنب الأسد» ستظل قلعة حصينة في وجه المرتزقة والمأجورين، وعلامة مضيئة في درب التحرير الوطني.
المؤسف في كل هذا أن مليشيا الدعم السريع، رغم كل الخسائر، لا تبدو مستعدة للمراجعة أو التراجع. لا اعتراف بالفشل، ولا مؤشرات على عقلنة القرار. كأنها تسير بخطى ثابتة نحو الهاوية، ولكنها تصر أن تجرّ معها البلاد كلها. وإن لم تكن هنالك إرادة حازمة من الدولة والمجتمع والمحيط الإقليمي والدولي، فإن مشروع هذه المليشيا سيستمر في إشعال الحرائق حتى الرمق الأخير.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى هذه المليشيا كفاعل سياسي قابل للتفاهم، ولا كقوة ميدانية قابلة للإصلاح. إنها في جوهرها أزمة إنسانية مركّبة: أزمة في الرؤية، وفي القيادة، وفي الولاء. والرد على هذه الأزمة لا يكون إلا بحسم عسكري واضح، ودعم سياسي جامع، وإرادة وطنية لا تتسامح مع من يبيع الخراب على هيئة مشروع. للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب:
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة