في ظل تفاقم الحرب الشاملة، واتساع رقعة النزوح والانهيار المؤسساتي، تتقدّم حكومة بورتسودان، الخاضعة لهيمنة المؤسسة العسكرية وتحالف الإسلاميين، بخطى متعمدة نحو إعادة إنتاج نموذج الدولة القمعية الذي قاد السودان إلى الانهيار. وفي هذا السياق، يشكّل تعيين عبد الله محمد درف وزيرًا للعدل في يوليو 2025 لحظة مفصلية في ترسيخ نهج الحكم بالعقيدة الإسلامية على حساب دولة المواطنة والقانون. فهذا التعيين لا يعبّر فقط عن أزمة أخلاقية وسياسية، بل يؤكد أيضًا النيل من أي تصور لمبادئ العدالة الدستورية القائمة علي المواطنة، والتراجع الصريح عن التزامات السودان الدولية في مجال حقوق الإنسان وفقا للقوانين والمعاهدات الدولية. يمثّل درف، صاحب السجل القضائي المرتبط بمحاكمات الردة والدفاع عن العقوبات الحدّية، أحد رموز مشروع الأسلمة القسرية الذي طالما استخدم الشريعة كأداة أيديولوجية لإسكات الأصوات الحرة، وإعادة إنتاج الاضطهاد باسم الدين. إن وجوده على رأس وزارة يفترض أن تكون حامية لحقوق الناس وحرياتهم، يُعدّ مؤشرًا خطيرًا على استعادة الدولة الثيوقراطية لصيغتها القديمة، حيث تُصاغ القوانين لخدمة السلطة العقائدية، لا لضمان كرامة الإنسان ومساواته أمام القانون.
أولاً: وزارة العدل ليست مؤسسة دعوية – من مؤسسة سيادة القانون إلى أداة قمع أيديولوجي: في النظم الدستورية الحديثة، تُعد وزارة العدل واحدة من أعمدة الدولة المدنية، إذ تضطلع بصياغة السياسات التشريعية، وضمان اتساق القوانين مع الدستور، وحماية الحريات العامة، وتعزيز استقلال القضاء، وضمان سيادة القانون دون انحياز ديني أو أيديولوجي. إن جوهر وظيفة هذه الوزارة هو تجسيد الضمير القانوني للدولة، لا فرض تصور ديني معين على المجتمع، ولا إدارة العدالة باعتبارها "حدودًا شرعية" تُنفذ على أجساد وضمائر المواطنين. لكن في السودان، ومنذ عقود، وخاصةً خلال حكم نظام الإنقاذ الإسلامي (1989–2019)، تحولت وزارة العدل إلى جهاز قمع أيديولوجي، لا همّ له إلا ترسيخ هيمنة تيار الإسلام السياسي وتصفية التعدد الثقافي والديني والفكري. تم توظيف الوزارة لتقنين الاستبداد عبر قوانين فُرضت باسم الشريعة، استخدمت لتكميم الأفواه، وتجريم الفكر، ومعاقبة النساء والفنانين والمثقفين والكتاب، واستهداف غير المسلمين وأبناء المناطق المهمشة. لقد أصبحت الوزارة أداة لحماية العقيدة السلطوية، لا حقوق المواطنين. ويأتي تعيين شخصية مثل عبد الله محمد درف – المعروف بدفاعه المتشدد عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وعلى رأسها حد الردة – ليتوّج هذا الانحدار القانوني. درف هو تجسيد حي لنموذج القاضي الذي يقف ضد حرية التعبير، لا إلى جانبها، وضد حرية المعتقد، لا حمايتها. سجله العدلي، الذي يتضمن تمثيل الاتهام في قضايا فكرية ودينية ضد صحفيين ومفكرين، وعلى رأسها قضية الردة ضد الصحفي محمد طه محمد أحمد، يُبيّن بوضوح كيف جرى استخدام النيابة العامة، ليس لتكريس العدالة، بل كمنصة لتأديب المجتمع وترويضه وفق تصورات لاهوتية إسلامية متشددة. إن اعتماد مواد مثل المادة 126 من القانون الجنائي لسنة 1991، التي تُجرّم "الردة"، وتُبيح قتل الإنسان بسبب أفكاره ومعتقداته، يُعدّ إخلالاً صارخًا بمبدأ سيادة القانون، وتحديًا مباشرًا للمواثيق الدولية، واستخدامًا تعسفيًا للقانون لتصفية الخصوم، واستهداف حرية الضمير والفكر والبحث العلمي والإبداع. لقد انقلبت وزارة العدل من مؤسسة مدنية تضطلع بصيانة الحقوق، إلى منبر لمحاكم التفتيش الجديدة، وظيفتها تأمين النظام السياسي عبر قمع كل ما يخرج عن عقيدته الرسمية، وفرض التجانس الديني والثقافي بالقوة. وما تعيين عبد الله درف إلا إعادة إنتاج لهذا النمط السلطوي، لا يمكن تبريره بأي منطق قانوني أو أخلاقي.
ثانيًا: عبد الله درف وتجريم حرية الفكر والضمير عبد الله درف، ابن مدينة خشم القربة، تدرّج في المؤسسات العدلية السودانية، لكنه اختار منذ وقت مبكر أن يكون في خدمة العقيدة السلطوية لا العدالة. في العام 2006، مثّل درف الاتهام في قضية الردة الشهيرة ضد الصحفي محمد طه محمد أحمد، التي استندت إلى المادة (126) من قانون العقوبات لسنة 1991. تم تقديم محمد طه للمحاكمة لمجرد نشر مقال بعنوان "مولد المصطفى"، بزعم أنه مسيء للرسول وأصحابه، دون أن يكون المقال نفسه صريحًا في الإساءة أو يدعو للعنف، بل كان ضمن نقاش ديني واجتماعي. حجة هيئة الاتهام التي قادها درف تمثلت في أن الصحيفة لم تنشر توضيحًا أو اعتذارًا! وهكذا أُحيل الفكر إلى منصة الإعدام، وانتصرت ثقافة التكفير على حق الإنسان في حرية الرأي والضمير.
إن هذه الممارسة تُشكّل انتهاكًا صارخًا للمادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن: "لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في الإعراب عنه بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر" كما أنها تتناقض مع المادة (19) التي تؤكد: "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير..."
ثالثًا: الردة عقوبة غير دستورية وتنتهك القانون الدولي إن مبدأ "حد الردة" الذي لا يزال عبد الله درف يؤمن به، ويعتبره أساسًا لتصفية المعارضين، هو مبدأ يتعارض مع أغلب المواثيق والمعاهدات الدولية، نذكر منها: - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) لا سيما: - المادة 6(2) التي تحظر تطبيق عقوبة الإعدام إلا في أشد الجرائم خطورة. - المادة 18 التي تضمن حرية المعتقد وتغيير الدين. - المادة 19 التي تضمن حرية التعبير. - اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية التي تُعد كل تهديد بعقوبة الإعدام بسبب الرأي أو المعتقد تعذيبًا نفسيًا. - الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (1981) الذي يؤكد في المادة 8 على حرية الدين والضمير وفي ضوء هذه المواثيق، فإن تجريم الردة، بل وممارسة الاضطهاد باسمها كما فعل درف، يمثل جريمة قانونية دولية وإنسانية، وليس مسألة دينية أو فقهية خلافية كما يدّعي المؤيدون.
رابعًا: الإسلام السياسي ومراكمة الخراب التيار الذي ينتمي إليه عبد الله درف – تيار الإسلاميين السودانيين – أثبت خلال ثلاثة عقود من الحكم أنه تيار معادٍ للديمقراطية، ومعادٍ لحقوق الإنسان، وعدو لدولة القانون. فهو التيار ذاته الذي: - شرّع الإبادة الجماعية في دارفور. - دمر النسيج الاجتماعي في جبال النوبة والنيل الأزرق. - استخدم الشريعة كأداة حرب ثقافية ضد جنوب السودان، مما أدى في النهاية إلى انفصاله عام 2011 - زرع قوانين الهوس الديني مثل قانون النظام العام وقانون الأمن الوطني. دعم منظومة الفساد، وغض الطرف عن جرائم المخدرات والتهريب، وهي ذات الجرائم التي لم يواجهها درف ولو بموقف شجاع واحد في مسيرته. إن تكريس الشريعة بهذه الطريقة لم يكن أبدًا وسيلة لبناء مجتمع متماسك، بل كانت وما زالت أداة قمع واستبداد أيديولوجي، تتيح للنخبة الإسلامية حكم السودان باسم الله، وتجريم معارضيها باسم الكفر والردة.
خامسًا: التعديلات الدستورية تحت فوهة البندقية إن حكومة بورتسودان، بقيادة د. كامل إدريس، والتي عينت درف وزيرًا للعدل، لم تأتِ عبر مشروعية شعبية أو انتخاب ديمقراطي، بل جاءت نتاج انقلاب عسكري وتواطؤ إسلامي، فرض تعديلات دستورية تحت القوة. وهي تعديلات صيغت لتكريس سلطة الجيش والمخابرات، وإعادة هيكلة العدالة بما يتناسب مع مصالحهم، لا مع العدالة الاجتماعية أو الديمقراطية. وبتعيين شخص كعبد الله درف، المعروف بانحيازه إلى الفقه العقابي الإسلامي والتجريم الأيديولوجي، في منصب وزير العدل، فإن الوزارة تفقد معناها كمؤسسة لحماية حقوق الناس، وتتحول إلى أداة لترسيخ سلطة الطغيان باسم الدين والشريعة الإسلامية.
خاتمة: لا مخرج إلا بنظام علماني ديمقراطي لا مركزي وعدالة تاريخية إن وجود أشخاص مثل عبد الله درف على رأس مؤسسات سيادية في الدولة السودانية، يؤكد الحاجة العاجلة لثورة دستورية وأخلاقية. لا يُمكن بناء السودان الجديد اعتمادًا على ذات الأدوات والمفاهيم التي دمرت القديم. فالشريعة الإسلامية، كما طُبقت في السودان، لم تكن يومًا قانونًا للجميع، بل كانت سلاحًا في يد الأقوياء ضد الهامش والمهمشين والنساء والمفكرين وأصحاب الرأي والمبدعين. ولا خلاص لهذا البلد إلا عبر نظام علماني ديمقراطي لا مركزي، يضمن: - فصل الدين عن الدولة. - احترام حرية الاعتقاد والضمير. - بناء دستور وفقا لمبادئ فوق دستورية يضع الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في مركز العملية السياسية. - إقامة عدالة تاريخية تُنصف ضحايا الحروب، والعنصرية، والتهميش، وتعيد الاعتبار للمواطن بوصفه مركز السيادة لا أداة في يد العقيدة أو العسكر. السودان لا يُحكم بالشريعة، بل بالعدالة. والعدالة لا تقام بمنظومة الردة، بل بحرية الفكر.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة