تعيش الساحة السياسية السودانية في الوقت الراهن لحظة فارقة، حيث تتجلى مظاهر الانقسام والتشظي داخل واحد من أبرز الأحزاب التاريخية في البلاد، وهو حزب الأمة القومي. فقد انطلق مشهد الأزمة من مؤتمر صحفي في بورتسودان، ليكشف عن ديناميكية معقدة تتداخل فيها التوجهات العسكرية والمدنية، وتتموضع حولها تيارات متنازعة داخل الحزب نفسه، الأمر الذي ينذر بمرحلة سياسية غير مستقرة قد تعيد تشكيل التحالفات المدنية، وتفرغها من مضمونها الوطني الجامع.
حين أعلنت مجموعة من قيادات الحزب في بورتسودان سحب التكليف من اللواء فضل الله برمة ناصر وتثبيت مولانا الدومة رئيسًا للحزب، لم يكن الأمر مجرد إجراء داخلي تنظيمي، بل جسّد انقسامًا حادًا في الموقف السياسي من الحرب الدائرة في السودان. فبينما يتهم برمة ناصر بمخالفة النظام الأساسي ومهادنة قوات الدعم السريع من خلال توقيع إعلان نيروبي، ظهرت المجموعة الجديدة بوصفها مدافعة عن ما تصفه بشرعية الجيش الوطني، دون تقديم ما يثبت حصولها على تفويض مؤسسي يتيح لها اتخاذ قرارات بهذا الحجم. هذه المفارقة تعبّر عن أزمة بنيوية تمتد إلى عمق العلاقة بين القيادة والمؤسسات التنظيمية داخل الحزب، حيث تغيب آليات القرار الجماعي، وتحل محلها النزعة الفردية، بما يكشف عن تآكل تدريجي لفكرة القيادة الجامعة القادرة على ضبط المسار السياسي.
في الجهة المقابلة، يبرز تيار مدني داخل الحزب يتمثل في تحالف صمود بقيادة صديق الصادق المهدي، يحاول استعادة المسار السياسي الذي طالما تبنّاه حزب الأمة القومي تاريخيًا، وهو الموقف الأخلاقي من الحرب وترسيخ خيار التفاوض والمصالحة الوطنية. هذا التيار لا يكتفي بالتفاعل مع الحرب، بل ينطلق من مشروع سياسي يسعى إلى إعادة صياغة موقع القوى المدنية باعتبارها طرفًا مؤثرًا في رسم المشهد، لا مجرد مستجيب لتقلباته. ومع ذلك، يواجه هذا التوجه تحديات متعددة، أبرزها مأزق الشرعية التنظيمية داخل الحزب، إلى جانب الاختلافات البنيوية بين القيادات التاريخية التي تتمسك بالإرث، والشخصيات الصاعدة التي تبحث عن مساحة فعل حقيقي في واقعٍ متحوّل. هذا التباين بين الأجيال لا يرتبط فقط بالتوجهات السياسية، بل يمتد إلى مفهوم القيادة نفسه، وصلاحية التمثيل في ظل فقدان المركز.
ما جرى في بورتسودان، ومن قبله في نيروبي، لا يمكن فصله عن الانهيار المتسارع في مؤسسات الحزب، تلك التي كانت يومًا ما فضاءً للجدل السياسي المنضبط، ثم تحولت إلى ساحة مفتوحة تُدار فيها المعارك عبر تكليفات فردية وتصريحات إعلامية. إن تعدد استخدام اسم الحزب في تحالفات متناقضة، سواء مؤيدة للجيش أو الدعم السريع أو القوى المدنية، يُظهر مدى التآكل الذي أصاب البوصلة التنظيمية التي كانت تحمي هوية الحزب وتحدد اتجاهه السياسي. وليس ذلك فحسب، بل إن الحزب فقد تدريجيًا المرجعية الفكرية التي ميّزته تاريخيًا. فقد خفتت شعاراته الإصلاحية، وتراجعت لغته الوسطية، وغاب خطابه العقائدي، ليحل محله نمط من التفاعل المرتبك مع الأحداث، من دون قدرة على تقديم مبادرات أو تصورات استراتيجية واضحة. هذا الانكفاء يعكس انسحابًا من موقع القيادة إلى هامش التعليق.
الواقع الراهن يشير إلى ملامح تعقيد واضحة، تتجلّى في تفكك مؤسسي، وتصاعد القرارات الفردية، وتراجع وحدة المواقف، مما أدّى إلى تآكل الهيبة التنظيمية التي كانت تمنح القيادة شرعيتها. ومع استمرار غياب مؤتمر عام شرعي يعيد ترتيب البيت الداخلي، فإن مستقبل الحزب يبدو محصورًا بين مسارين، الأول هو الانقسام الرسمي وظهور أجسام جديدة تمثّل تيارات بعينها، والثاني هو التجميد التدريجي الذي يحوّل الحزب إلى كيان رمزي فاقد للفاعلية.
الأزمة لا تقتصر على المركز السياسي، بل تمتد لتطال القاعدة الجماهيرية للحزب، تلك التي شكلت لسنوات طويلة خزانه الشعبي ورافعة مواقفه. فقد تراجعت قدرته على التعبئة، وانقسمت الولاءات بين مؤيدين للمسارات العسكرية، وداعمين للمدنية، ومغتربين عن التنظيم بأكمله. كما أثّرت الانقسامات القيادية على الروابط المجتمعية التقليدية التي كان الحزب يستند إليها، مثل النقابات والروابط الريفية والمنظمات الطوعية، فأضحى جسدًا سياسيًا دون حاضنة اجتماعية متماسكة.
تفكك حزب الأمة يترك فراغًا ثقيلًا في المشهد العام، فهو لم يكن مجرد مكون سياسي عادي، بل ظل أحد أعمدة التوازن في السياق الانتقالي السوداني. وانهياره يضعف الجبهة المدنية، ويمنح الأطراف المسلحة هامشًا أكبر من المناورة، ويزيد من تعقيد إعادة بناء العملية الديمقراطية المتصدعة أصلًا.
وفي ما يتعلق بالشرعية، بات الحزب يُدار بمنطق الواقع أكثر من منطق المؤسسات، حيث تُنتزع القرارات من سياق إعلامي لا مؤسسي، وتُفرض القيادات بالأمر الواقع بعيدًا عن آليات الإجماع التنظيمي. هذا التحول يُجرد الحزب من قيمته كمؤسسة ناظمة للعمل الجماهيري، ويحوّله إلى ساحة للتمثيل المتنازع، لا للإنتاج السياسي المتماسك.
وهكذا، فإن الحديث عن إعادة إحياء القوى المدنية لا يُمكن فصله عن ضرورة معالجة أزمة حزب الأمة القومي أولًا. فاستعادة توازنه التنظيمي، وتجديد خطابه السياسي، وإحياء مشروعه الفكري، تمثّل مدخلًا لا غنى عنه لاستنهاض الفعل المدني في مجمله.
وإذا كان هناك طريق للإصلاح، فلن يكون بالترقيع المؤسسي، بل بعملية تجديد داخلية شاملة، تعيد للحزب ملامحه القيادية، وتسترد مبادرته السياسية، وتستنهض هويته الفكرية، وتعيد له موقعه الطبيعي داخل المعادلة الوطنية. وإذا لم يتحقق ذلك، سيبقى حزب الأمة القومي نموذجًا حيًا لكيف يمكن لتاريخ سياسي عريق أن يتبدّد حين تفقد الرؤية قدرتها على الحياة، ويتكلّس القرار في لحظة عجز تاريخية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة