من غرفة «كلوب هاوس» إلى ذاكرة الوطن كنتُ في غرفةٍ افتراضيةٍ بتطبيق «كلوب هاوس» – منتدى الدكتورة هند الحكيم – وهي تُنيرُ العتمةَ بنبرتها الهادئة، تقرأ على الحضور من كتاب الصحافي الفني طارق شريف، بصوت الشاعرنصر الله قادني، الذي يذكّرنا دائمًا بأن الكلام الحقيقي لا ينزل إلا مطرًا. تلك المبادرة الجميلة ألهمتني كتابة هذه السطور، تحيةً لصنّاع الوجدان السوداني الذين نسجوا من الكلمة واللحن دروعًا لروح الأمة، وبنوا ذاكرةً تستحق أن تظل حيّة فينا. حين يصبح اللحن هوية «الأغنية السودانية الأصيلة ليست مجرد طرب يملأ الأذن، بل مشروع لبناء إنسان يعرف الجمال قيمة، والصورة بيتًا، والإيقاع نبض حياة.» في زمن يغزوه الغناء المبتذل كجراد جائع، حيث الكلمات المستعارة والألحان الفارغة تشبه أكياس شاي مستعملة، نعود إلى ينبوع الحقيبة، إلى الطنبور والمدائح والرميات، حيثُ تأسست الذائقة وتربّى الحس. جيل الروّاد بناة الذوق والمعنى الحقيبة كانت أكثر من لون غنائي، كانت مدرسة في الذائقة والالتزام. هؤلاء الرواد لم يغنّوا عبثًا، بل اختاروا الشعر الرفيع ليضعوه على أجنحة اللحن. الحاج محمد أحمد سرور، رائد الحقيبة، الذي كان يختار القصيدة كما ينتقي الصائغ جوهرته <«يا قائد الأسطول تخضع لك الفرسان» (كلمات سيد عبد العزيز) «برضي ليك المولى الموالي» (إبراهيم العبادي) «يا سايق الفيات» (العبادي أيضًا) «صفوت جمالك صافي» (عبيد عبد الرحمن)
سرور تعامل مع جهابذة الشعراء: محمد عبد الله الأمي، محمد بشير عتيق، سيد عبد العزيز، عبيد عبد الرحمن، إبراهيم العبادي.
عبد الكريم كرومة، «كروان السودان»، الذي غنى للكلمة كما لو كانت بستانًا-«يا ناعس الأجفان» (عتيق) «وصف الخنتيلة» (أبو صلاح) «دمعة الشوق» (مصطفى بطران) «يا ليل ابقالي شاهد» (صالح عبد السيد – أبو صلاح) «العيون النوركن بجهرا» (أبو صلاح) كرومة لم يكن مجرد صوت، بل ذائقة شكلت جزءًا من الوجدان الجمعي. التوثيق حراسة الذاكرة هنا يأتي دور الصحافي طارق شريف، الذي لم يكتفِ بالحنين، بل وثق.
في «سرور - سايق الفيات» قدّم سيرة هذا العملاق، مبينًا كيف كان يصهر الكلمة والنغمة في بوتقة الفن الرفيع.
في «كرومة كروان السودان» سجّل فصلاً آخر من ذاكرة الطرب السوداني الأصيل.
التوثيق ليس مجرد أرشيف، بل جسر يربط الأجيال، كالخيط الذي يجمع المسبحة المتناثرة.
لقاء الشعر والموسيقى ثنائيات خالدة الغناء السوداني الأصيل ليس مجرد لحن جميل، بل حوار حي بين الشاعر والمغني. لم تكن الأغنية الأصيلة لقاء عابرًا، بل شراكة مقدسة، فيها الشاعر يرسم خريطة الروح، والمغني يحولها إلى نهر يروي القلوب. ودعونا نذكر بعض الثنائيات الصحيحة التي صنعت هذا التراث:
الشاعر المغني أغنيات أو سمات بارزة حسين بازرعة عثمان حسين «الوكر المهجور»، «بعد الصبر»، «شجن» إسماعيل حسن محمد وردي «بهمسه »، «قمر بوبا »، «أسفاي » هاشم صديق محمد الأمين «الملحمة»، « كلام للحلوة »، «-حروف أسمك اسمك » عمر البنا، سيد عبد العزيز، عتيق سرور وكرومة ركائز مدرسة الحقيبة عبيد عبد الرحمن، إبراهيم العبادي سرور أعذب ما في الحقيبة
هنا، حيث الكلمة ليست مجرد صوت، بل معنى، وحيث «فدياس» في قصيدة صلاح أحمد إبراهيم (وغناها حمد الريح في «مريا») ليست كلمة غريبة بل رمز للعبقرية والجمال الكلاسيكي.
مابين الأمس واليوم صراع الجوهر وسرعة ايقاع العصر وفي الابداع السائدالقشرة اليوم، تسقط الأغنية الهابطة في فخ السرعة والسطحية , كلمات كفقاعات صابون، ألحان كوجبات سريعة، تشبع الجسد وتجوّع الروح. وما يحزن أكثر أن بعض من يسمون أنفسهم فنانين لا يعرفون معنى «فدياس»، ذاك النحات الإغريقي العظيم الذي صنع تمثال زيوس! حين ينفصل الفن عن الثقافة، يصير كطائر بجناح واحد، يدور في الفراغ قبل أن يسقط.
دعوة إلى إحياء الذاكرة الجميلة يا أهل السودان الغناء الأصيل ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل هوية تُسرق منا إذا استسلمنا للتسطيح. فلنحيِ هذا الإرث , بتدريس «فن الكلمة» في مدارسنا. بجمع وتوثيق أعمال الرواد. بتشجيع الأصوات الشابة التي تغني وكأنها تزرع أشجارًا للظل والثمر. «الغناء الأصيل هو النيل الذي يروي أرض الوجدان. فإذا جفّ، تحوّلنا إلى صحراء تائهة.» وهذا ما أخُطّه بحبر الوفاء لروادنا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة