تحت عمودي الصحفي الذي إخترت له إسم "المخرز"، لإخراج الدم الفاسد من ثقافتنا.
في عالم يتجه نحو الديمقراطية والعدالة، لا تزال بعض الدول ترزح تحت وطأة الحكم العسكري الذي أثبت التاريخ مرارا أنه عائق للتنمية ومصدر للخراب السياسي والإجتماعي. السودان مثال صارخ على ذلك، حيث أدى حكم العسكر إلى تدمير مؤسسات الدولة وتعطيل مسيرة التحول المدني الديمقراطي. من أمريكا الجنوبية إلى آسيا وأفريقيا، أثبتت الشعوب قدرتها على التخلص من الطغيان العسكري. الأرجنتين أنهت الحكم العسكري عام 1983 بعد سقوط المجلس العسكري وهزيمة حرب الفوكلاند، والبرازيل في 1985 بعد أكثر من عقدين من القمع. أما تشيلي فتحولت منذ 1990 بعد إسقاط حكم بينوشيه، وتبعتها أوروغواي، بوليفيا، بيرو، باراغواي وفنزويلا. في أوروبا، إستعادت إسبانيا الحكم المدني بعد نهاية دكتاتورية فرانكو، وأطاحت ثورة القرنفل في البرتغال بنظام سالازار عام 1974، وأعادت اليونان الحكم المدني بعد إنهيار الطغمة العسكرية في ذات العام. في آسيا، تحولت كوريا الجنوبية إلى نموذج ديمقراطي منذ الثمانينات رغم سلسلة من الانقلابات، كما أُطيح بسوهارتو في إندونيسيا عام 1998 إثر إحتجاجات شعبية، في حين تواجه تركيا تحديات ديمقراطية مستمرة رغم إنقلاب 2016. أفريقيا بدورها شهدت نجاحات بارزة في التحول المدني؛ فغانا ونيجيريا بدأتا مسيرة ديمقراطية مستقرة منذ التسعينات، وجنوب أفريقيا تخلّصت من نظام الفصل العنصري لصالح مؤسسات مدنية، بينما لا يزال شعب بوركينا فاسو يقاوم ديكتاتوريات متعاقبة. ورغم الزخم الشعبي الذي رافق بعض الإنقلابات العسكرية الأخيرة في أفريقيا، إلا أنها ليست ظاهرة صحية. الشعارات السيادية مثل "محاربة التدخل الخارجي" و"استعادة السيطرة على الموارد" لا تكفي لتبرير تعطيل الديمقراطية. تجربة النقيب إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو، المستلهمة من إرث توماس سانكارا، تُعد نموذجا معقدا. فسانكارا، الذي غيّر إسم بلاده إلى "بوركينا فاسو – أرض الرجال النزهاء"، إغتيل على يد العسكر، مما يعكس هشاشة المشاريع الوطنية حين تُختطف وتُسلّح. الوعي السياسي العميق هو ما يُمكّن الشعوب من التمييز بين الثورات الحقيقية وتلك التي تُغلفها الإنقلابات بشعارات وطنية براقة. فالديمقراطية ليست ترفاً بل ضرورة لحماية المصالح الوطنية، وتحقيق الإستقرار والتعايش السلمي. أما العالم العربي، فقد شهد أعنف موجات الإنقلابات، من سوريا والعراق ومصر إلى ليبيا والجزائر والسودان، وأسست هذه الإنقلابات أنظمة استبدادية كرّست القمع وأجهضت نضالات الشعوب نحو الحكم المدني، لصالح أقليّات فاسدة تتحكم في الأجهزة الأمنية والعسكرية. السودان، بتاريخه الطويل من الانقلابات منذ عام 1958، أصبح نموذجا مأساويا. بعد ثورة ديسمبر، تنفّس السودانيون الصعداء بانتظار مرحلة إنتقالية ديمقراطية، لكن الجيش بقيادة البرهان إنقلب مجدداً على الإرادة الشعبية، وأشعل حربا دامية تُعد الأخطر في تاريخ البلاد الحديث. من يدعم هذا الجيش المختطف؟ أربع فئات تتكامل في دعم المشروع العسكري: فلول النظام السابق الذين يسعون لحماية إمتيازاتهم، والإنتهازيين الذين يغيّرون مواقفهم حسب مصالحهم الضيقة، والفئات التي تُستغل عاطفتها تحت تأثير التضليل الإعلامي، وأخيراً الفقراء والكادحون الذين أصبحوا أسرى في مناطق سيطرة الجيش المختطف.
المزاعم بوجود "حكومة مدنية" لا تعكس الواقع، بل تهدف إلى تزييف وعي الشعب وخداع الرأي الإقليمي والدولي. بعد انقلاب البرهان وداعميه على حكومة الثورة، لا توجد سلطة تعبّر عن تطلعات الشعب السوداني، بل عصابة تسعى لاستدامة الأزمة ونهب الموارد تحت شعار "حرب الكرامة". الإنقلابات العسكرية ليست أدوات لمحاربة الإستعمار كما تدّعي بعض الشعارات، بل أدواته الأكثر فاعلية. فالعسكر يخدمون مصالح القوى العالمية عبر قمع الشعوب وتعطيل التنمية وتفريغ السياسة من مضمونها الشعبي. الوطنية لا تقاس بالشعارات، بل بمقاومة الحكم العسكري، والدفاع عن الديمقراطية، وبناء مؤسسات مدنية، وتمكين الشعب من تقرير مصيره. الشعوب التي نجحت لم تكتفِ بالشعارات، بل أسست نظمًا تستند إلى إرادة الناس لا إرادة العسكر. لن يتعافى السودان إلا إذا تحرر من قبضة العسكر، وبنى رؤية علمية طموحة تستفيد من تجارب الشعوب الديمقراطية، وفكّك إرث الإنقلابات العسكرية، وساءل من أشعلوا الحروب ونهبوا الوطن، وحقق السلام الاجتماعي على أسس العدالة والمشاركة الشعبية. في زمن تسعى فيه قوى الردة والظلام إلى تسويق مشروع الخراب والدمار، وتصف الحرب اللعينة بأنها حرب كرامة! يبقى "المخرز" أداة للوعي، وثقافة مغايرة للثقافة العمياء التي تبثها قوى التضليل والتجهيل، الاوضاع في السودان غاية في السوء نتيجة للقصور الذاتي، بسبب الجهل والجشع والأنانية هذه العوامل أعمت بصائر الكثير عن رؤية الواقع البائس الذي لا شفاء منه بالمسكنات العسكرية والشعارات الفارغة، بل بوعي يخاطب جذور الأزمة الوطنية السودانية برؤية علمية تقودها عقول نزيهة، وضمائر حية تعمل على نقد أخطاء الماضي والحاضر وتبشر بمفاهيم تدعوا للإنفتاح على الآخر والمشاركة والتداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة وتحقيق مضامين الإستقلال السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية، لضمان صون السيادة الوطنية وإستقلال القرار الوطني. لا كرامة بلا حرية، ولا حرية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا شعب يقظ لا يُخدع بالشعارات ولا يُساوم على حريته وحقوقه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
الطيب الزين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست