تُعَدّ سيكولوجيةُ المقهور، وتأثيرُها المُدمّر على بناءِ السودان، من أهمّ التحدّيات التي تواجهه. فثقافةُ التبعيةِ والانتهازية، المُغذّاةُ بقهرٍ اجتماعيٍّ متجذّرٍ، تُعيقُ التنميةَ وتُؤجّجُ الصراعاتَ الطائفيةَ والقبليةَ والجهوية. تتمحور هذه السيكولوجية حول اعتقادٍ خاطئٍ بأنّ الصعودَ الاجتماعيّ لا يتأتّى إلاّ عبر التملّقِ والاتّكالِ على الآخر، مُهمّشةً بذلك القدراتِ الذاتيةَ والإنجازاتِ الفردية، مُحوّلةً الاستحقاقَ إلى منحةٍ من سلطةٍ عليا، سواءً كانت هذه السلطة سياسيةً أم قبليةً أم جهوية. يُترجم هذا الاعتقاد إلى ثقافةِ التبعية، حيثُ يُفضّلُ الأفرادُ الطرقَ السهلةَ بدلاً من العملِ الجادّ، مُتّكلينَ على علاقاتِ النفوذِ بدلاً من الكفاءةِ والخبرة. ينتشرُ سلوكُ "كسر التلج"، حيثُ يستغلّ الأفرادُ فرصَ الصعودِ الاجتماعيّ عبر التملّقِ والاتّكالِ على علاقاتٍ وِثاقيةٍ، مُهمّشينَ الكفاءاتِ الحقيقيةَ. هذا السلوك يتجلى بوضوح في المشهد السياسي السوداني، حيثُ غالباً ما يُفضّلُ الانتماءُ القبليُّ أو الجهويُّ على الكفاءةِ والنزاهةِ في اختيارِ المسؤولين.
يُمثّلُ هذا الواقعُ أزمةً حقيقيةً في الفهمِ والوعي، وانعداماً في الثقة بالنفس، ما يُعيقُ التقدّم. العديد من الكفاءات والمواهب تضيعُ في زحامِ الانتهازيين، مُعيقةً بذلك التطوّرَ والتقدّم. لذا، لا بدّ من فضحِ سلوكياتِ الانتهازيين، وكشفِ زيفِ ادّعاءاتهم، وتعريةِ استغلالهم لانتماءاتٍ عرقيةٍ أو جهويةٍ دونِ امتلاكِهمِ لأيِّ رؤيةٍ أو برنامجٍ ثاقب. إنّ الاعتمادَ على مثل هذه العلاقاتِ يُعتبرُ حلاً قصير الأمد، لا يُؤدّي إلى نتائجٍ مُستدامةٍ، بل يُعزّزُ حالةَ عدمِ الاستقرارِ والانقسام.
للتخلّص من هذه السيكولوجية المُدمّرة، يجبُ العملُ على عدةِ محاورٍ رئيسيةٍ في السياق السودانيّ:
* بناء الثقة بالنفس: تعزيزُ ثقافةِ الاعتمادِ على الذات، وتشجيعُ المبادرةِ والإبداع، وتنميةِ مهاراتِ التفكيرِ النقديّ، وتوفيرِ بيئةٍ مُحفّزةٍ تُكافئُ الجهدَ والإنتاج، وذلك عبر دعمِ التعليمِ وتوفيرِ فرصِ العملِ اللائقة. * مكافحة الانتهازية: سنّ قوانينٍ صارمةٍ لمعاقبةِ الانتهازيين، وتعزيزُ الشفافيةِ والمساءلةِ في كافةِ المُؤسّسات، وتشجيعُ ثقافةِ الأداءِ المتميّزِ والكفاءة، وإرساءِ العدالةِ في توزيعِ الفرص، ومحاربةِ الفسادِ بكافةِ أشكاله. * تعزيز ثقافة التسامح: بناءُ جيلٍ جديدٍ يتجاوزُ الانتماءاتِ الضيقة، ويُؤمِنُ بالتّعاونِ والتّكاملِ الوطنيّ، ويُقدّرُ الكفاءةَ والخبرةَ مهما كان مصدرها، عبر نشرِ ثقافةِ الحوارِ والتفاهمِ بين مختلفِ المكوناتِ السودانية. * استثمار القدرات البشرية: توفيرُ فرصٍ تعليميةٍ وتدريبيةٍ مُتاحةٍ للجميع، وتوجيهُ الطاقاتِ الشبابيةِ نحو بناءِ السودان، من خلال إيجادِ فرصٍ عملٍ حقيقيةٍ تُشجّعُ على الإبداع والابتكار، وتوفير بيئة أعمال جاذبة. * إصلاح منظومة التعليم: غرسُ قيمِ العملِ الجادّ، والإخلاص، والنزاهة، والاعتمادِ على الذاتِ في المناهجِ الدراسية، وتعديلها لتُلبّي احتياجاتِ سوقِ العملِ السودانيّ، مع التركيز على التعليم المهني والفني.
يُشكّلُ التخلّص من سيكولوجيةِ المقهور، ومكافحةُ الانتهازية، شرطاً أساسياً لتحقيقِ التنميةِ المستدامةِ في السودان، وبناءِ مجتمعٍ عادلٍ ومتماسك. إنّ الثقةَ بالنفس، والإيمانَ بالقدراتِ الذاتية، والتّمسّكَ بالقِيَمِ الأخلاقيةِ، هي أدواتٌ فعّالةٌ في بناءِ مستقبلٍ أفضل. يجبُ على الشبابِ السودانيّ نبذُ العرقيةِ والانتماءاتِ الضيقة، والتركيزُ على البرامجِ والأهدافِ الوطنية، مع إدراك أنّ الأشخاصَ مجردُ أدواتٍ قد تنتهي صلاحيتها، في حين أنّ القيمَ والمبادئَ هي ما يبقى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة