الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وضعت القوى المدنية السودانية، مثل الأحزاب السياسية، قوى الحرية والتغيير، لجان المقاومة، وتجمع المهنيين، أمام معضلة وجودية عميقة وصعبة. هذه القوى تجد نفسها مضطرة للاختيار بين طريقين شديدي الخطورة والصعوبة، في سياق بالغ التعقيد والدموية.
الخيار الأول هو التمسك بالمقاومة السلمية، رغم كلفته الفادحة من حيث التأثير المحدود أمام أطراف مسلحة لا تعرف سوى لغة القوة. هذا الخيار يمنح القوى المدنية شرعية أخلاقية وسياسية، ويجعلها تحتفظ بدعم دولي وإقليمي ضروري، ويجنبها الانزلاق إلى الفوضى العسكرية. لكنه أيضًا يبقيها عرضة للتهميش، ويمنح العسكر والميليشيات فرصة فرض أجنداتهم عبر القوة، بينما يكتفي المدنيون بالاحتجاج والتنديد.
الخيار الثاني هو تبني العسكرة وحمل السلاح. هذه الفكرة جذابة لبعض الأصوات في أوساط القوى المدنية، خاصة بعد الفظائع الواسعة التي ارتكبت في حق المدنيين من نهب وقتل واغتصاب وتدمير. هناك من يرى أن حمل السلاح يمكن أن يخلق نوعًا من الردع، أو يمنح القوى المدنية ورقة تفاوضية. لكن هذا الخيار شديد الخطورة، إذ يعني فقدان التميز الأخلاقي، والتحول إلى ميليشيا جديدة في مشهد يعج بعشرات الميليشيات. كما أنه يمنح العسكر والدعم السريع ذريعة ممتازة لتوسيع القمع وتصفية المعارضة، ويوسع دائرة العنف الأهلي، ويفتح الباب لصراعات مناطقية وانتقامية قد يستحيل السيطرة عليها لاحقًا.
هذه المعضلة لا تنشأ في فراغ، بل في سياق استراتيجية واضحة يتبعها الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه. هذه الأطراف تسعى بوضوح إلى إفراغ الساحة من أي قوة منافسة تمثل صوت الشعب المطالب بالديمقراطية والعدالة، وتحويل الصراع إلى معادلة عسكرية صرفة لا مكان فيها للسياسة ولا للمدنيين إلا كأتباع خانعين أو كضحايا صامتين.
الجيش وحلفاؤه من الحركات المسلحة عملوا منذ بداية الحرب على شيطنة القوى المدنية. تم اتهامها بأنها مسؤولة عن الحرب، عميلة للخارج، أو طابور خامس يسعى لتقسيم السودان. هدف هذا الخطاب واضح: فرض خيارين أمام القوى المدنية، إما الانضمام إلى المشروع العسكري والتخلي عن استقلاليتها ومطالبها الديمقراطية، أو أن تُعامل كعدو يُحارَب بلا رحمة.
وسط هذه الضغوط، ظهرت دعوات بين بعض الناشطين أو القوى المدنية لحمل السلاح أو تشكيل مقاومة مسلحة. هذه الدعوات لها أسباب مفهومة إنسانيًا وسياسيًا: الإحباط من عجز المجتمع الدولي، الرعب من الانتهاكات الواسعة، الشعور بأن السلمية وحدها لم تمنع القتل ولا التهجير، وأن القوة المسلحة قد تمنح ورقة ضغط أو تحمي الأحياء من النهب والاغتصاب.
لكن هذه الدوافع، مهما كانت مفهومة، يجب أن تواجه بواقعية استراتيجية صارمة. عسكرة القوى المدنية تحمل مخاطر عميقة للغاية. أولًا، خطر الانقسام الداخلي: أي محاولة لتسليح جزء من القوى المدنية ستؤدي إلى انقسام خطير داخلها، بين من يقبل هذا الخيار ومن يرفضه، ما يضعفها في لحظة حرجة. ثانيًا، فقدان الدعم الشعبي والدولي: القوى المدنية المسلحة ستُعامل مثل أي ميليشيا أخرى في نظر المجتمع الدولي، الذي لا يريد مزيدًا من الأطراف المسلحة في حرب معقدة ودموية أصلًا. ثالثًا، الانزلاق إلى العنف الأهلي: المجموعات المدنية المسلحة قد تتحول لاحقًا إلى أدوات انتقام، أو ميليشيات مناطقية خارجة عن السيطرة، ما يوسع دائرة الحرب الأهلية ويزيد من تعقيد الحل السياسي. رابعًا، القمع المبرر: الجيش والدعم السريع سيجدان في أي عسكرة مدنية ذريعة ممتازة لسحق المعارضة واعتقال الناشطين وقمع أي صوت مستقل تحت ذريعة محاربة «الميليشيات الجديدة».
رغم ذلك، لا يعني رفض عسكرة القوى المدنية البقاء مكتوفي الأيدي أو الرضوخ. هناك بدائل استراتيجية ذكية ممكنة. يمكن للقوى المدنية تعزيز العصيان المدني المنظم، مثل الإضرابات، المقاطعات، الاحتجاجات السلمية، وتعطيل المؤسسات التي يستخدمها العسكر في حكم البلاد. هذا ليس خيارًا سهلًا، لكنه يراكم الضغوط بشكل مستمر ويضعف سيطرة العسكر على المجتمع.
كذلك يمكن للقوى المدنية بناء تحالفات دولية وإقليمية قوية وفعالة، تقوم بفضح الجرائم والانتهاكات، وتضغط من أجل فرض عقوبات نوعية على الأطراف المعرقلة للسلام، وتدعم عملية سياسية جادة. من المهم أيضًا بناء هياكل حماية مدنية غير مسلحة، مثل لجان الأحياء وشبكات الإنذار المبكر، التي تنظم المجتمع وتوفر الحد الأدنى من الأمان والتضامن دون السقوط في فخ العسكرة.
عنصر بالغ الأهمية هو توثيق الانتهاكات والجرائم. القوى المدنية تستطيع وتحتاج إلى جمع الأدلة والشهادات ضد قادة الحرب من الطرفين، لإعداد ملفات محاسبة وطنية ودولية مستقبلية، وللحفاظ على ذاكرة جماعية تمنع التلاعب بالرواية.
ماذا سيحدث إذا حملت القوى المدنية السلاح فعلًا؟ السيناريو الأكثر ترجيحًا هو التشظي: ظهور عشرات الميليشيات الصغيرة المتناحرة، زيادة الفوضى، وتعقيد أي محاولة لبناء دولة موحدة لاحقًا. سيناريو آخر هو القمع المبرر: الجيش والدعم السريع سيستخدمان هذا التطور كذريعة لسحق أي معارضة، محليًا ودوليًا. وسيناريو ثالث هو التحول إلى طرف حرب، وفقدان الشرعية الأخلاقية والسياسية، والانزلاق في صراعات جانبية لا نهاية لها.
أما التوقعات الواقعية على المدى القصير فهي استمرار خطاب التخوين والتحريض ضد القوى المدنية، ومحاولة تفتيتها أو ابتلاعها أو سحقها. على المدى المتوسط، الحرب ستنهك الجميع، وسيتزايد الضغط الإقليمي والدولي من أجل تسوية ما، وعندها ستكون القوى المدنية، إذا بقيت موحدة وسلمية، الطرف الوحيد القادر على تمثيل تطلعات الشعب. وعلى المدى الطويل، لا حل مستدام إلا بوقف الحرب، نزع سلاح الميليشيات، إصلاح القطاع الأمني، وإطلاق مسار ديمقراطي شامل لا يستثني أحدًا.
القوى المدنية السودانية في مفترق طرق صعب للغاية. إما أن تظل سلمية وتخاطر بتهميشها في المدى القصير، أو تحمل السلاح وتغامر بالتحول إلى ميليشيا أخرى في حرب مدمرة. لكن الخيار الأكثر نجاعة وواقعية على المدى البعيد هو رفض العسكرة التي تعني الانتحار السياسي، وتعزيز المقاومة المدنية الذكية والمنظمة، وبناء تحالفات داخلية وخارجية قوية، وتوثيق الجرائم، والاستعداد لمرحلة المحاسبة.
أن الدرس الأهم من تجارب الصراعات العالمية أن من يملك السلاح قد يربح معارك، لكنه لا يربح الحرب في النهاية. الحرب يكسبها في النهاية من يملك الشرعية الشعبية والقدرة على توحيد الناس حول مشروع وطني جامع وعادل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة