لم يعد انتهاك حقوق المؤلفين في السودان مجرّد حادثة معزولة، بل تحوّل إلى نمط مقنن من الجشع الثقافي، تتورّط فيه بعض دور النشر كما تتورّط الميليشيات في نهب المدن. والنتيجة، للأسف، مشهدٌ مأزوم يشهد على انحدار أخلاقي ومهني خطير داخل سوق النشر.
في منشور موثق، دوّن الدكتور حسن الجزولي شهادته المؤلمة حول تعرض أحد كتبه لسطو مباشر، حيث قال:
"الصديقات والأصدقاء الأعزاء، يسرّنا أن نعلن صدور الطبعة الثالثة من كتاب أرشفة الضحك (الجزء الأول)، والطبعة الثانية المنقحة من عنف البادية عن دار (ويلوس هاوس)، بإشراف الصديقة قاتا. وللأسف، فقد تعرّض عنف البادية لانتهاك فجّ، حيث أقدم بعض الناشرين (سودانيين ومصريين) على إعادة طباعته بطريقة غير قانونية (فوتوكوبي)، وتحقيق أرباح طائلة من توزيعه، خصوصاً في المعارض الدولية بالدول العربية. وقد تم توثيق هذه الانتهاكات في مقدمة الطبعة الجديدة، مع الشروع في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لاسترداد الحقوق."
هذه الواقعة، التي وثّقها أحد أبرز المثقفين السودانيين، ليست استثناءً، بل تمثل نموذجاً صارخاً لما بات شائعاً في سوق النشر: غياب الضوابط، واستسهال التعدي على حقوق المؤلفين، وتحويل الكتاب إلى غنيمة رخيصة في سياق ثقافي هش.
ففي السودان، لم تعد تقاليد السلب مقتصرة على من يحملون السلاح. ما يحدث في مجال النشر لا يختلف كثيراً عن ممارسات الميليشيات حين تقتحم المدن، وتنهب الممتلكات، وتستبيح ما تجده أمامها دون وازع قانوني أو أخلاقي.
لقد اعتادت بعض دور النشر السودانية، بل وحتى العربية، على انتهاك حقوق الكتّاب دون أدنى شعور بالمسؤولية. ولسنا هنا بصدد الحديث عن عقود مجحفة أو حقوق مجتزأة، بل عن أنماط سافرة من السطو الكامل: تُصوَّر الكتب، وتُوزَّع وتُباع في الأسواق والمعارض، من دون علم المؤلف، أو موافقته، أو تعويضه، أو حتى مجرّد الإشارة إليه.
وما يزيد الأمر فظاعة، أن هذا يحدث في بلد يعيش كتّابه ظروفًا بالغة القسوة، وسط حرب طاحنة وأزمات متفاقمة. يكتبون من تحت الركام، ويواصلون الإبداع رغم المحن، ثم يُحرَمون حتى من أبسط حقوقهم الأدبية والمادية. يُعامل الكاتب كاسم على الغلاف، لا كصاحب فكر وإبداع وتعب.
وقد طالت هذه "الشفشفة الثقافية" عدداً من رموز الإبداع السوداني، سواء من الراحلين كالأديب الطيب صالح، والمفكر الطيب محمد الطيب، والمناضل عبد الخالق محجوب، أو من الأحياء الذين لا تزال كتبهم تُباع وتُقرصن دون إذن أو مقابل، في تعدٍ صارخ على جهودهم وتاريخهم.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كانت الميليشيات تبرر نهبها باعتباره "غنائم حرب"، فبأي منطق يبرر الناشرون هذا السطو؟ أهو الجهل بالقانون؟ أم غياب الوعي؟ أم قناعة ضمنية بأن الثقافة نفسها باتت غنيمة متاحة للنهب؟
إن المطلوب اليوم ليس تعاطفاً عابراً، بل تحرّك جاد ومُنظم على مستويات عدّة: أولاً، بناء وعي قانوني ومهني لدى المؤلفين لحماية حقوقهم ثانياً، سنّ تشريعات واضحة وصارمة لمحاسبة المعتدين. وثالثاً، تشكيل جبهة متماسكة من الكتّاب والقراء، تقاوم هذا الانهيار وتعيد الاعتبار لقيمة الكتاب.
رابعاً، قيام اتحاد الكتاب بدوره في حماية حقوق عضويته
إننا نعيش في زمنٍ تُهدَّد فيه الكلمة من كل الجهات، وحين تُسرَق الكلمة، يُسرَق معها الضمير، ويُفرَّغ الوطن من صوته وروحه.
ولأن الكلمة هي ما تبقّى لنا وسط هذا الخراب، فإن التفريط فيها لا يقلّ عن خيانة الأرض والعِرض. لا بد أن يتحمّل كل من له علاقة بالحقل الثقافي، مسؤولية حماية الكتاب، لا فقط باعتباره سلعة، بل كوثيقة وعي، وأداة مقاومة، وتجسيد لكرامة وطن.
إن الشفشفة الثقافية لا تقلّ خطرًا عن الشفشفة المسلحة، فكلاهما يُمعن في تقويض ما تبقّى من الضمير الوطني. فكما نقاوم النهب المسلح، علينا أن نُقاوم النهب الثقافي، لأنه يسرقنا من الداخل، ويُطفئ آخر ضوء في نفق هذا الوطن المظلم.
_______________________________________________ عاطِف عبدالله قسم السيد Atif Abdalla Gassime El-Siyd أبو ظبي ص ب 129661 P.O.Box : 129661 Abu Dhabi
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة