من الحقائق التي لا معنى لاضاعة الوقت في اثباتها، أن هذه المدينة التي يعلم الجميع نشوئها وتطورها، والتي ترك الساسة الذين زهتهم السطوة، وخلبت ألبابهم المقدرة، أمورها فوضى تمضي على غير نظام، وهرج يسير في غير طريق، عرضتها هذه الطبقة المخملية، التي لا تنشد غير اتساع ذاتها وارتفاعها، وتلبية رغباتها الصخابة الشدية الصوت، لتلك الألوان الكثيرة من الشر والفساد، فهذه الولاية التي عاشت عقوداً طويلة متآخية مع الاقعنساس، والنكوص، والتخلف، من المحقق أن من تبوّءوا ذروة المناصب العامة فيها، قد اتخذوا من الرسوم، والاجراءات التي تجري عليها الدولة في تنظيم خواصها، ومحصولها، وحيوانها، وسيلة إلى الحياة المرهفة، والعيش الرغيد، فقد هيمنت هذه الطائفة، بتوجيه رسائلها، ومخاطباتها، وصيغها، على أرض الولاية وما تحتويه من عناصر، وأنهار، وجبال، فمن حق الدولة، ومن الحق عليها، أن تكبح جماح الحُكام وكبار الموظفين، الذين لا نستطيع نحن أن نغمض أعيننا عن فسادهم الواسع الجوانب، البعيد الأغوار، على الدولة أن تقطع جذور هذه الشجرة، وأن تجتهد في تكوين النظم الديمقراطية لهذه الولاية، التي لم تسعى بعد للتقرب إلى دعائم الاستقرار، أو الفناء فيه، إن الضوابط الديمقراطية التي نحتفي ونؤمن بها، ونحرص عليها، والتي ليست هي حتماً محلاً للجدال والنزاع، لباب مذهبها، وجوهر دعوتها، هو توطيد العدل، وتحقيق المساواة بين أبناء الوطن الواحد، ولكن المساواة صُرعت، وتجردت من كل معانيها في هذه الولاية المونقة الزاهية، و ليس من المبالغة والاغراق في شيء، أن نزعم أن هناك أثنية محددة بعينها، يعتز بها والي تلك الولاية، ويعتمد عليها، ويسبغ عليها من مننه واحسانه ثوباً ضافياً فضفاضا.
الولاية وتاريخ معاركها الحافل بالسذاجة.
لقد تقطعت الوشائج بين مكونات هذه الولاية أو كادت، وليس بالأمر اليسير أن تلتئم لحمتها من جديد، فالفتنة التي وضعت، واستقرت، وتحددت معالمها، نجهد أنفسنا كثيراً، إذا قلبنا تاريخ هذه الولاية، لنعثر على عداوة قديمة بين عشائر وقبائل المنطقة، أو حرباً ضروساً، ذهب الزمان بذكراها وآثارها، كلا لم يحدث بين هذه المكونات التي تعاني بعضها من التهجير القسري، والتغيير الديموغرافي، والتهميش والإقصاء، شحناء متصلة دفعتها إلى مواجهات ظلت رحاها تدور، حتى تلمأت عليها القبور، ورصت عليها الجنادل والصخور، كل النزاعات التي حدثت فيما مضى، كانت نزاعات بسيطة ساذجة أسبابها واضحة، وعلتها مقبولة، ومعظمها كان ناجماً عن كسل بعض هذه المكونات، التي لم تكن تصبر على جهد، ولا ترغب في عمل، وفي معناها الأسمى، حاجة بعض الفئات التي لا تجتمع إلا على شر، ولا تحتشد إلا لمصية، للجوء إلى السيوف والدروع والرماح.
الساسة وإثارة النعرات القبلية
ولكن في الحق، كل هذه الصراعات على كثرتها، لم تجعل المعارك تشد أظلافها في أرض هذه الولاية، وتثبت قوائمها، وتصلب عظامها، فهذه الولاية التي تعتبر قوة أساسية من قوى التوازن الاقتصادي في السودان، لم تنهمك في الحروب والتشبيب والتعرض لها في كل مكان، إلا حينما أوجدت فيها العصبية المسيسة الممقوتة، عقلاً منحطاً ضعيفا، العصبية الممجوجة التي يباح فيها ارتكاب كل شطط، من الواضح والجلي أن شرائح المجتمع في تلك الولاية النائية القصية، ما زالت تظهر الرغبة في لجم هذه الاضطرابات التي تصول فيها الشهوات السياسية التي ما فتئت على نشاطها وحدتها، ويضاف إلى ما سبق، عدم وجود جبهة قوية مستنيرة، تتصدى لهذه الجهات التي تفاقم شرها، واستطار أذاها، جبهة تبذل الجهود "السلمية" لبعث النشاط الايجابي في كل عضو من جسم هذه الولاية المثخنة بالجراح، جبهة تستمد أعظم أسلحتها ونفوذها، من الانتماء إلى هذه الولاية، وتسعى لأن تزيل البواعث الموجبة لهذا الصراع، جبهة تغدو أداة متماثلة في عملها ومظاهرها، تدعو في حدة إلى أن يتخلى الناس عن نظمهم العتيقة التي تحمل في معظمها مظاهر الجمود والتخلف، وتستعيض عنها بهذه التيارات الجارفة من التصانيف الجديدة التي تدحض تلك النظريات البالية، وتحررها من عقابيلها ورجعيتها الطاغية.
أحداث الولاية القصية وضرورة تغيير مفاهيمها
لقد غيرت هذه الأحداث العظام التي زلزلت تلك المنطقة تغييراً عظيما، ودفعتها إلى الالتجاء إلى منظومة القبيلة المتخلفة، العجفاء، التي تودي بكل استقرار، وتعوق كل نهضة، فما من شك، أن الإرتماء في أحضان القبيلة، والدوران في فلكها، يعوق النظم الحرة التي تحرص على توحيد كلمة الشعب أشد الحرص، وتقوض حرية التفكير والرأي والكلمة، فحرية التعبير انحدرت الآن إلى الحضيض، لأن السمة الطاغية على هذه الكوكبة التي صفدت كل ألوان الرأي، والقول، والتفكير، أن تضيق بالحريات التي كفلتها الشرائع السماوية، والدساتير الوضعية، فهي لا تفسح مجال الحياة والظهور إلا لتلك الجهات التي تكتب أعظم الأحرف وأرفعها في الإشادة بجهودهم، وامتداح سياساتهم الخرقاء.
العلاج الناجع لعلل هذه الولاية
وحتى نصارح أنفسنا بالحق، ونبرئها من وصمة النفاق، نقول أن هوى هذه الولاية مستقراً في أرواحنا، فهواها ليس حكراً على جرثومة دون غيرها، نحن نحبها ونعشقها عشقاً محضاً، لا تشوبه شائبة سلطة، أو تعترضه خاطرة اقصاء، أو تكدره ذرة طغيان، ولا نبتغي غير أن يبسط السلام سلطانه عليها، نقولها بوضوح لا ريب فيه، أن أديم الولاية الشاحب يدل على أعصاب مجهدة، أنهكتها الرزايا والوساوس والعلل، وأن السبيل الوحيد لاضفاء السناء عليه، هي الوحدة بين أطيافه، الوحدة التي تضاعف معنى الحياة في النفس، لا نقصد بها أغراض متواضعة هينة، بل هي الوحدة المرتكزة على التراكيب والنظريات، التي ترفض احتكار ثروات هذه الولاية إلى ثلة أو أثنية محددة بعينها دون غيرها، الوحدة التي نعنيها، هي الوحدة التي تناهض تلك الطبقة الأرستقراطية التي احتفظت لنفسها بالوظائف العليا، وتركت لغيرها الفتات، والعمل الخشن المضني، إن الوحدة التي ننشدها هي أن يضطلع الوالي أو الحاكم بأعباء حكمه في نزاهة وصدق واخلاص، وأول الواجبات التي يجب أن يؤديها هذا الحاكم الذي يظهر نزعة الديمقراطية في هيكلية حكمه، هو أن يحمي الجماعات المهيضة الجناح، من الجماعات النافذة المتغولة، وأن يحقق لشعبه المساواة، ويكفل لهم الحرية، وأن يدهش ويبهر شعبه بعدله الواسع، وأن يذهب في هذا العدل إلى أبعد مدى من الغلو والإغراق، ومن المهم والضروري أن يترفع الحاكم عن غرائزه وشهواته، نحن لا ندعو الولاة أن يتقشفوا في مأكلهم وملبسهم، و أن يلبثوا أعواماً يرتدون الصوف، ويمكثوا في تلك المنازل الذاوية البالية، ولكن نطلب منهم أن يزهدوا في متاع هذه الحياة الدنيئة، وأن يبعدوا عن هذا الترف الأملد الناعم، الذي ينهك عرى الإيمان في الحنايا والأفئدة، على الولاة أن يذودوا عن حِمى مناطقهم، وينخرطوا في تنفيذ برامجهم التي تحقق التنمية، وترتقي بالتعليم، وتحتفي باللغة الجامعة التي تتحدث بها كل أطياف مجتمعاتهم، الوحدة التي نسعى إليها، هي الوحدة التي لا تنحرف بالناشئة عن ثقافة آبائهم، ودينهم الخالد الباق على مر الحقب والأزمان، هذه هي بعض أشكال ومظاهر الوحدة، التي تمنع أن تسري إلينا صور الخوف والجزع، وتدفع عنا عصف الفرقة والشتات، قد صورناها تصويراً نظن أنه دقيق، وأنه قد احتفى بالنظم السياسية والمدنية والاجتماعية التي تقوم عليها حياتنا وتزدهر، وتنصلح به أمورنا التي تقف في سبيل اصلاحها المصاعب والعقبات. د.الطيب النقر
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة