في مطلع هذا الأسبوع، أصدرت القوى المدنية السودانية وثيقة سياسية بعنوان: "رؤية سياسية لإنهاء الحروب واستعادة الثورة وتأسيس الدولة"، في لحظة بالغة التعقيد، وسط أتون حرب مدمرة وتفكك مؤسسي شامل. وبينما تتآكل السلطة المركزية وتتصارع القوى العسكرية على الخراب، جاءت هذه الرؤية كمحاولة تاريخية لرسم مخرج عقلاني، يستند إلى إرث الثورة السودانية وواقع الصراع المركب. الجذر لا العَرَض تشخيص متقدم للأزمة تتجاوز الرؤية التوصيف التقليدي للأزمة، لتعيد بناء فهم سياسي عميق لجذور الحرب الحالية، معتبرة إياها امتدادًا لنهج إجهاض الثورة الذي بدأ عقب سقوط البشير، من خلال تحالف العسكر والإسلاميين، وتفكيك مؤسسات الدولة لصالح شبكات مصالح خاصة. فالمعضلة ليست في "صراع جنرالين" فحسب، بل في بقاء الدولة رهينة لقوة عسكرية لا تخضع للمدنيين، ولقوى أيديولوجية ترى في الديمقراطية تهديدًا وجوديًا. من الاحتجاج إلى التخطيط: ملامح رؤية وطنية ما يميز الوثيقة هو أنها ليست بيانًا سياسياً مؤقتًا، بل تصور شامل للمرحلة الانتقالية، يبدأ من وقف إطلاق النار ويصل إلى إعادة تأسيس الدولة. وتشمل أبرز ملامحها:
نزع الطابع السياسي عن المؤسسة العسكرية، وإعادة بنائها كمؤسسة وطنية موحدة بعد تفكيك الدعم السريع.
فصل الدين عن الدولة، وإرساء مبدأ المواطنة المتساوية كمرجعية دستورية.
تفكيك منظومة التمكين الاقتصادي والسياسي للإسلاميين، ومصادرة أصولهم.
مرحلة انتقالية طويلة (10 سنوات) لضمان الاستقرار والتدرج في الإصلاح.
عدالة انتقالية حقيقية تقود إلى المحاسبة لا المساومة، عبر المحكمة الجنائية الدولية. الرؤية في ميزان الجغرافيا السياسية تعي الرؤية تعقيدات الإقليم، حيث لم يعد الصراع سودانيًا خالصًا، بل ساحة تنافس بين مشاريع متضاربة: محور السعودية والإمارات يدعم مقاربة الهيمنة المركزية أو النفوذ الأمني. مصر تتوجس من نقل الثقل العربي للجنوب الخليجي. روسيا، وبدوافع جيواستراتيجية، تتداخل في كل المحاور، من الذهب إلى الموانئ. وبين هذه القوى، تحاول "صمود" ـ كمشروع مدني جامع ـ أن تُبقي المبادرة في يد السودانيين أنفسهم، دون الوقوع في وهم الحياد أو التبعية.
معضلة القوة- الثغرة الأخطر رغم اتساق الرؤية وتكاملها، إلا أنها تصطدم بحقيقة لا يمكن تجاهلها: القوى المدنية لا تملك سلاحًا، ولا نفوذًا ميدانيًا، ولا موارد اقتصادية قادرة على فرض التحول.
الطرفان المتحاربان يملكان الأرض، والدعم الإقليمي، والقدرة على المناورة بالعنف. أما القوى المدنية، فتعوّل على الشارع، وعلى الضمير الدولي، وعلى ما تبقى من مؤسسات.
وهذا يضع الرؤية أمام سؤال جوهري: هل يمكن لفكرة قوية أن تنتصر على الرصاص؟ أم أن التوازنات الدولية ستفرض "تسوية شكلية" تقتصر على تقاسم الغنائم؟
السيناريوهات: من الحلم إلى الممكن وضعت الوثيقة ثلاثة سيناريوهات مركزية -السيناريو المثالي- ضغط دولي مدعوم بتحركات شعبية، يفرض وقف إطلاق النار، ويعيد المسار الديمقراطي. السيناريو الكارثي- أنقسام دائم، وتحول دارفور أو كردفان إلى كيانات شبه منفصلة، وتكرار تجربة جنوب السودان بصيغة جديدة. السيناريو الواقعي -تسوية برعاية أممية، تقصي العسكر والإسلاميين جزئياً، مع بناء سلطة مدنية تدريجية ومناطق آمنة لإعادة الإعمار. الرؤية كنداء تأسيسي ما صدر عن القوى المدنية ليس مجرد ورقة موقف، بل دعوة لتجديد التعاقد الوطني على أسس غير تلك التي عرفها السودان منذ الاستقلال: لا عسكرية في السياسة
لا احتكار ديني للهوية
لا تهميش مناطقي أو قبلي
لا حصانة لمن ارتكب الجرائم
نجاح هذه الرؤية مرهون بتوافر ثلاثة شروط:
توحيد الجبهة المدنية وعدم الوقوع في التنافس الصغير.
إعادة اختراع أدوات المقاومة السلمية بأساليب مبتكرة.
بناء شبكات دعم إقليمي/دولي ذكية، من دون الارتهان.
إننا أمام لحظة تشبه مفترق الطرق الذي عبرته شعوب أخرى: فإما أن نستعيد وطنًا على أسس جديدة، أو نواصل السقوط في دوامة الدول الفاشلة. و"صمود" هي آخر فرصة حقيقية لاجتراح طريق ثالث.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة