اصدر مجلس الوزراء والسيادة في فبراير ٢٠٢٥ تعديلات على ما يسمى ب" الوثيقة الدستورية" الميتة عملياً، وهي تعديلات لم يهتم بها احد ولم يؤيدها احد ولم يعارضها احد، وهو امر فاجع اذا كنا نتكلم عن القانون الاساسي لحكم البلاد.
في هذه الظروف الاستثنائية، لا يكفي وجود إطار مؤقت هشّ، مثل الوثيقة الدستورية سيئة الصيت، لحكم البلاد . ما نحتاج اليه هو تأسيس دستوري جديد وقوي، يضبط مؤسسات الدولة ويحقق التوازن بين السلطات، ويضمن إدارة رشيدة تراعي شح الموارد وأولوية الأمن والحقوق والخدمات الأساسية.
سقوط الوثيقة القديمة وموتها:
إن الوثيقة الدستورية المعتمدة منذ ٢٠١٩ قد ماتت وشبعت موتاً، وليس عليها بواكي. فمن جهة لم تكن هي محل اجماع وطني قط، ومن جهة اخرى فقد تم تغييرها عشرات المرات، حتى لم يعد احد يعرف ماهيتها ولا كنهها، أجن هي ام بشر ، انثى ام ذكر، واصبحت بقاياها الان نصّاً مفتتاً متناقضاً لا يعرف تفاصيله احد من المتخصصين، ناهيك عن افراد الشعب المسكين.
كما ان الوثيقة الدستورية سيئة الصيت قد فقدت فعاليتها بسبب غياب اثنين من اطرافها الثلاثة طرفيها— المليشيا وقحت — عن المشهد السياسي، بعد ان بادرت احداهما بقتال الشعب والاخرى بالتماهي معها، كما نفضت قوى اخرى - مثل الحزب الشيوعي - يدها عن الوثيقة منذ فترة طويلة .
لماذا اعلان دستوري جديد:
ان واقع الحرب قد اعاد رسم الخارطة السياسية، حيث اصبحت قضية السيادة والامن القومي من اهم القضايا السياسية ، واصبحت هناك ضرورة لتأسيس جديد، يراعي هذا الواقع الجديد. لا ننسى ان الوثيقة الدستورية قد اعدت بليل في وقتها ولعبت فيها اصابع اجنبية ، كما يعلم كل المتابعين لتلك الفترة.
كما ان التعديلات التي اجريت موخرا على الوثيقة، لم يتم فيها تشاور سياسي او مجتمعي كبير، والتقطها الشعب والعالم انها تزيد من هيمنة الجيش، في وقت تطرح فيه على البلاد مهام تكوين حكومة مدنية بقيادة د. كامل ادريس، تحتاج وتستحق لأن تنجح الى غطاء دستوري افضل من تلك الوثيقة الدستورية الملعونة.
كما ان ظروف الحرب وشح الموارد تفرض من جهة الاهتمام بقضايا الامن والدفاع، والتي كانت مهملة في الوثيقة الدستورية الميتة، ومن الجهة الاخرى تقليص الظل لاداري والنفقات البيروقراطية الضخمة، لجهازٍ دستوري متهالك يحرم المواطنين من أدنى الخدمات.
ما هي ابرز ملامح الاعلان الدستوري المرتقب:
اولاً: قضايا الحقوق والدستور الدائم ودولة المواطنة والانتخابات:
يجب تثبيت قضايا الحقوق في هذا الاعلان الدستوري بصورة واضحة في اعلان الحقوق في فصل خاص بالدستور. ان هذه السنة الحسنة التي سنت في دستور ٢٠٠٥ يجب ان تتواصل. يجب ضمان كل الحقوق الاساسية للسودانيين في هذا الاعلان، لأن هذا ما يتطلبه مبدأ الكرامة الانسانية وحقوق المواطن تجاه الدولة. كما يجب تثبيت مبدا العدالة وخصوصا ً في ظل الحرب الحالية، وباعتبار ان جرائم الحرب والابادة الجماعية لا يجب ان تمر هذه المرة دون عقاب او مساءلة.
كما يجب ان ينص الاعلان الدستوري على قضية آليات كتابة واجازة الدستور الدائم للبلاد، بما في ذلك انشاء مفوضية اعداد الدستور الدائم ، واجازة مسودته من قبل المجلس التشريعي الانتقالي، قبل ان تطرح للشعب في استفتاء عام وحر بنهاية الفترة الانتقالية.
كما يجب ان يرسي الإعلان مبدا دولة المواطنة، ويبتعد عن كل الصياغات الايدلوجية والعقائدية. ان الدستور نفسه هو المصدر الاول والوحيد للتشريع في الدولة، ومن هنا يجب الابتعاد عن الصياغات الايدلوجية فيه، اسوة بأغلب الدول الإفريقية والعربية والاسلامية التي تشكل محيطنا الجغرافي والثقافي.
واخيرا يجب النص بشكل واضح على طول الفترة الانتقالية وانها تنتهي بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وان الفترة الانتقالية غير قابلة للتمديد او التعديل، واعتبار اي محاولة لتمديدها جريمة دستورية وضد الدولة. ان هذا سيعطي اشارة قوية للشعب والعالم اننا على اعتاب مرحلة جديدة، تحترم فيها العهود ويلتزم فيها بالدستور والعقود الاجتماعية ويحترم فيها راي الشعب وحقه في القرار.
ثانياً: التعديل الهيكلي لمؤسسات الدولة :
في هذا الاعلان لا بد من التعديل الهيكلي لمؤسسات الدولة، في اتجاه اكثر فعالية وشعبية، وبما يضمن وجود مؤسسات متناغمة، وهذا ما نراه في التعديلات التالية:
أ: قيام المجلس التشريعي :
خلافا للوثيقة الدستورية السابقة، ولتعديلاتها الاخيرة التي سارت على نفس النمط، يجب في الاعلان الدستوري استعادة الدور الشعبي المتمثل في قيام برلمان انتقالي، تمثل فيه القوى السياسية والمدنية والاهلية الداعمة لبقاء الدولة وللسيادة الوطنية .
ان اعطاء سلطة التشريع لجلسة مشتركة لمجلسي الوزراء والسيادة هو امر يخالف الفقه الدستوري الذي يقوم على فصل السلطات. فلا يمكن ان تكون السلطة التنفيذية هي السلطة التشريعية نفسها.
ان قيام مجلس تشريعي اتحادي انتقالي ، ولو كان صغير الحجم، بعضوية ١٠٠ عضو مثلا ، كفيل باستيعاب قدرات قوى شعبية ضخمة وقادة للفكر والرأي، لا يجدون مكانهم حالياً، وتخفيف ضغط العمل على السلطة التنفيذية، كما ستكون بمثابة تدريب جيد على النظام البرلماني المنتخب المقبل.
ان قيام المجلس التشريعي قد اصبح ضربة لازب، وهو خطوة مهمة نحو استقرار الدولة وقيامها على المؤسسات، كما سيشكل ضربة سياسية ودبلوماسية قوية تجاه المليشيا وقحت ورعاتهما، الذين عطلوا قيام هذا المجلس تحت سلطتهم البائدة لاكثر من عامين.
ب: تثبيت دور مجلس الامن والدفاع:
في هذا الاعلان الدستوري الجديد، لا بد من تثبيت دور مجلس الامن والدفاع كجسم دستوري مستقل وذو صلاحيات كبيرة فيما يتعلق بالامن والدفاع. ذلك انه في كل العالم هناك دور رئيسي لمجلس الامن والدفاع، وفي ظروف السودان الحالية، تكون الضرورة اكبر لوجود هذا المجلس كمنبر للتداول والقرار في هذه القضايا التي اصبحت قضايا حياة او موت بالنسبة للشعب السوداني.
ان هذا المجلس في العادة يضم رأس الدولة، كما يضم رئيس الوزراء وعدد من اهم الوزراء مثل وزير الدفاع ووزراء الداخلية والخارجية والمالية، وكذلك قيادة القوات النظامية مثل قائد الجيش ورئيس هيئة الأركان ومدراء المخابرات والشرطة . في ظروف السودان الحالية يمكن ضم قادة الحركات التي وقعت على اتفاق جوبا، وذلك لدور المجلس المطلوب في عملية الترتيبات الامنية واعادة الدمج والتسريح.
ان هذا الجسم الدستوري برئاسة رئيس مجلس السيادة، سيضبط السياسات الأمنية الاستراتيجية، ويضمن تنسيقاً عسكرياً ومدنياً فعّالاً على مستوى عال، وبصلاحيات دستورية رفيعة.
ج: تقسيم اداري جديد للبلاد:
في اطار صياغة الاعلان الدستوري الجديد يجب حسم الفوضى الادارية الممثلة في تقسيم السودان ل ١٨ ولاية واقليمين، كما هو جار حالياً، وهو تقسيم اعتباطي لا يراعي التقسيمات الادارية القديمة لاقاليم السودان، ولا الحاجة للحكم الرشيد. ان هذا التقسيم الاعتباطي واحد من اسباب الفشل والنزاع في السودان .
في هذا الاطار نحتاج الى تقسيم السودان الى ٦ اقاليم فقط هي الشمالي والشرقي والاوسط وكردفان ودافور والخرطوم. هذه الاقاليم لها حجية تاريخية وثقافية واقتصادية، وهي تتطابق مع شعور المواطنين بالانتماء الاقليمي .
هذا التقسيم المختصر سيوفر تكاليف ١٤ جسماً ادارياً زائداً حالياً ، كما سيرسخ مبدأ الحكم الفيدرالي بوجود حاكم قوي للاقليم وحكومة اقليمية قوية وذات صلاحية، يتحملان المسوولية كاملة عن ادارة اقليمهما. في هذه الحالة تلغي الولايات الحالية فيما يقسم كل اقليم الى محليات.
ثالثاً : تقليص الظل الاداري:
وسط انخفاض الدخل القومي بأكثر من الثلث، ومشاكل الميزانية الكبيرة، نحتاج الى تخفيف الظل الاداري للدولة وبناء الدولة المقتصدة الرشيدة، التي توجه مواردها للامن والخدمات وليس للصرف البذخي التفاخري والتضخم البيروقراطي الاداري .
ويستدعي تخفيض الظل الاداري تقليص “مجلس السيادة” من ١١ عضواً إلى ثلاثة أعضاء فقط، مثلاً قائد الجيش واثنان من المدنيين—وبمهام شرفية ورقابية بحتة. ان انتقال جزء من صلاحيات مجلس السيادة الحالي للمجلس التشريعي ومجلس الامن والدفاع ومجلس الوزراء تجعل حجمه الحالي غير مبرراً، كما ان هذه الخطوة ستخفض التكاليف، وتختصر أوقات الاجتماعات، وتسرّع اتخاذ القرار في قضايا ملحة.
كما يجب في هذا الاطار اعتماد هيكل “حكومة رشيقة” لا تقل عن عشرة وزراء اتحاديين ولا تزيد عن عشرين. هذا العدد يجب ان ينص عليه دستورياً. ان هذه الحكومة الرشيقة ستكون قوية لأن الصلاحيات لن تتفتت في وزارات عدة خلقت فقط من اجل المحاصصات. كما ان اعتماد نمط الحكومة الرشيقة سيخفض الكلفة العامة. ان وجود المجلس التشريعي ومجلس الامن والدفاع وحكومات الاقاليم سيخفف الضغط على الحكومة وسيمنح الوزراء مزيداً من التركيز على السياسات التنموية والخدمات العاجلة.
رابعا: العلاقة بين المركز والاقاليم:
يجب ان يؤطر الاعلان الدستوري لعلاقة سوية ومتناغمة بين المركز والاقاليم، تضمن وجود الدولة الموحدة وفي نفس الوقت تعطي الاقاليم صلاحيات اكبر في ادارة شؤونها.
ان تجارب دول مثل الهند ونيجيريا وتنزانيا، ناهيك عن الولايات المتحدة والمانيا وسويسرا وبلجيكا، اثبتت نجاعة الحكم الذاتي الاقليمي في ادارة الدول الكبيرة والصغيرة المتنوعة ثقافياً . في واقع السودان اليوم، يكون تأسيس علاقة جيدة بين المركز والاقاليم، هو مفتاح النجاح لضمان وحدة البلاد ووحدة مواطنيها.
خاتمة:
إن إقرار إعلان دستوري انتقالي جديد بات اليوم أمراً لا غنى عنه لإخراج السودان من أزماته المتراكمة، ولبدء عهد جديد من حكم القانون والمؤسسات.
من خلال تثبيت الحقوق الاساسية ، وتقليص الهياكل البيروقراطية، والاهتمام بقضايا الامن والحكم الرشيد، سنضمن تأسيس مرحلة انتقالية أكثر تماسكاً وفعالية، كما سنراعي تخفيض التكاليف وضمان المشاركة الشعبية في الحكم، واعطاء شرعية اكبر للفترة الانتقالية الجديدة.
ان هذه الاعلان الدستوري الجديد سيكون أقوى وأكثر ديمقراطية ووضوحاً من الوثيقة الدستورية الميتة، وقادراً على مواجهة تحديات الحرب وما بعدها، والاستجابة لاحتياجات المواطنين، وتمهيد الطريق نحو دستور دائم يعكس إرادة السودانيين ويقودهم نحو المستقبل المشرق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة