انعقد في العاصمة الأوغندية كمبالا، خلال الفترة من 22 إلى 24 مايو 2025، الاجتماع الحضوري الأول للأمانة العامة والآلية السياسية للتحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (المعروف باسم "صمود")، برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك. وقد صدر عقب هذا الاجتماع بيان ختامي رأينا أن نتوقف عنده بالنقد والتحليل، لما يحمله – في تقديرنا – من تعبير عن رؤية مسوِّفة للصراع السوداني، ومقاربة مشوشة تطبع الأزمة وتفرغها من جذورها البنيوية، وتضلل الجماهير عبر إعادة إنتاج خطاب مركزي مأزوم في لبوس إنساني.
مدخل: إن أزمة خطاب "صمود" لا تكمن فقط في ما يقوله، بل في ما يمتنع عن قوله: في الحياد المموَّه، في الهروب من تحديد المسؤوليات التاريخية، وفي الإصرار على التعامل مع البنية المأزومة للدولة السودانية كما لو كانت قابلة للإصلاح عبر "حلول وسط" لا تمس جوهر المشكلة. بهذا المعنى، فإن “صمود” لا تواجه الشعب السوداني بالحقيقة، ولا تنخرط في طرح جذري يؤسس لتغيير فعلي، بل تمارس خطابًا مؤسساتيًا ناعمًا يخاتل الواقع ويخادع الجماهير، ويسعى للاستحواذ على الفضاء المدني لتجريده من قدرته الثورية و الكفاحية، عبر طرح بديل وهمي يتعاطى مع الحرب كاختلال عارض، لا كبنية سلطوية متمركزة على الإقصاء والهيمنة والعنف المُمأسس. ومع كامل التقدير للأدوار النضالية التي اضطلع بها بعض رموز تحالف "صمود" في مراحل مختلفة من مسيرة الثورة السودانية، إلا أن بيانهم الأخير يعبّر عن أزمة عميقة في الرؤية والموقف، وعن تراجع ملحوظ عن أي تموضع جذري أو اشتباك صريح مع مرتكزات الدولة المركزية ومؤسساتها العنيفة. وعلى النقيض من ذلك، فإن تحالف "تأسيس" – بما انطوى عليه من تحالفات مدنية وكفاحية مسلحة – قد شخّص طبيعة الصراع بوضوح، وحدّد جذوره الدينية والثقافية الطبقية والإثنية والتاريخية، وطرح مشروعًا تأسيسيًا جديدًا يعيد بناء الدولة على أسس العلمانية، وتقرير المصير، والعدالة التاريخية، والمواطنة غير المشروطة. تشخيص الحياد المغلّف بالشفقة: إن بيان "صمود" يراوح مكانه داخل خطاب يسعى إلى "إرضاء الجميع"، متبنيًا ما يمكن تسميته بـ"الحياد المغلّف بالشفقة": حياد تجاه دولة الإبادة الجماعية الجديدة المتشكلة في بورتسودان، وتجاه إرث الجيش السوداني في العنف والهيمنة، وشفقة إنسانية تُسوّق كبديل عن العدالة التاريخية. فبينما يتحدث البيان عن المأساة الإنسانية بلغة مُحزنة لكنها خالية من التحليل السياسي، يغيب عنه تحديد المسؤوليات البنيوية والتاريخية التي أدت إلى هذه المأساة، ويُستعاض عنها بنداءات أخلاقية لا تزعج البنية العميقة للسلطة. في المقابل، يطرح تحالف “تأسيس” سؤالًا واضحًا: ما الذي تبقّى من مؤسسات المركز حتى يُصلَح؟ وما هو الثمن الذي ينبغي أن يُدفع حتى يعترف مثل تحالف "صمود" بأن المسألة ليست في “وقف الحرب” فحسب، بل في تفكيك بناها الطبقية والإثنية التي ولّدتها؟
: في تشخيص الأزمة – الهروب المنهجي من تسمية البنية المهيمنة يتحدث بيان "صمود" عن أن الحرب قد كشفت عن "جذور الأزمة الوطنية"، لكنه، عند لحظة التسمية الجوهرية، يتراجع إلى مستوى توصيفي ضبابي، يمتنع فيه عن تحديد طبيعة هذه الجذور، أو مساءلة البنية السياسية التي أنشأتها. فالأزمة، كما يصورها البيان، تبدو وكأنها نتيجة لانفلات أمني أو انهيار أخلاقي عام، لا كنتيجة لتاريخ طويل من التمركز العنيف، والإقصاء الممنهج، وبناء دولة فوقية إثنو-دينية تمارس العنف الرمزي والمادي باسم وحدة زائفة. إن أزمة السودان ليست فقط أزمة "حرب نشبت في 15 أبريل"، بل هي نتيجة لبنية سياسية إثنو-دينية مركزية فوقية تأسست منذ الاستقلال، وتواصلت عبر العهود المختلفة، صاغها تحالف نخبوي ضيق على أساس إنكار الهويات الثقافية، واللغوية، والإثنية، والسياسية لشعوب الهامش. لقد تشكلت هذه الدولة على صورة النفي: نفي للتعدد، نفي للمواطنة المتساوية، نفي للحق في الوجود السياسي، ونفي للعدالة التاريخية. ولهذا فإن الحرب ليست انحرافًا عن المسار الوطني، بل هي استمرارية عنيفة لبنية قمعية تعيد إنتاج نفسها عبر أدوات مختلفة، منها الآن خطاب “الحياد الإنساني” الذي يتبناه بيان “صمود". إن هذا التجنب – أو بالأحرى هذا الإحجام المنهجي عن تسمية المركز المُهيمن ومؤسساته القمعية – ليس مجرد خلل لغوي أو نقص معرفي، بل هو تعبير سياسي عن نزعة إصلاحية تخشى الاصطدام مع البنية التي لا تزال تتشبث بأدوات الهيمنة القديمة، وتعيد إنتاج نفسها تحت شعارات مدنية منزوعة الجوهر. فالخطاب هنا لا يخطئ في التشخيص عرضًا، بل يختار عمدًا أن يبقي الأزمة في حيّز العَرَض لا الجذر، لأن تسمية الجذر تعني الاصطدام مع السلطة المركزية، مع الامتيازات المتوارثة، ومع السرديات الكبرى التي بُنيت عليها "الدولة السودانية" الحديثة منذ الاستقلال. في المقابل، جاء تشخيص تحالف "تأسيس" على نقيض هذا التهرب الإصلاحي؛ فقد سمّى الأشياء بأسمائها، وأعاد تعريف الدولة السودانية لا كمجرد جهاز سلطوي فشل في توفير الخدمات، بل ككيان تشكّل تاريخيًا عبر الهيمنة الإثنية والدينية والطبقية، وتمفصل مع الإسلام السياسي والعسكرية القومية لتكريس بنية عنف منظم ضد الشعوب غير العربية وغير المسلمة، وضد الأقاليم الطرفية. وقد أتى اعتراف “تأسيس” بحق تقرير المصير والحكم الذاتي باعتباره آلية تفكيك لبنية الهيمنة المركزية، لا كهبة فوقية، بل كحق تاريخي لشعوب حُرمت من أن تكون فاعلة في إنتاج العقد السياسي، بل ووجودها ذاته داخل الدولة قد خضع دائمًا للتشكيك والإخضاع، وموهوم من يستطيع ان يبني وطن يتجاور حقوق مواطنيه الأساسية. من هنا، فإن الفارق بين الخطابين ليس فقط في اللغة، بل في التموقع السياسي: بيان "صمود" ينتمي إلى تقليد إصلاحي يراهن على "ترميم" الدولة، بينما ميثاق ودستور “تأسيس” ينتميان إلى مشروع جذري يروم إعادة تأسيسها من الأساس، على أنقاض منظومة لم تُنتج سوى الحرب، والقهر، والاستبعاد، علي مشروع لسودان جديد.
ثانيًا: "الكتلة المستقلة" كقناع للحياد: عندما يصبح اللا-اصطفاف موقفًا ضد الثورة: يتبنى بيان "صمود" صيغة غامضة تتحدث عن "كتلة مدنية مستقلة ولكن غير محايدة"، وهي صيغة لا تستقيم لا لغويًا ولا سياسيًا، بل تكشف عن ارتباك جوهري في فهم طبيعة اللحظة الثورية. فحين يرفض التحالف الاصطفاف مع الدولة المركزية القمعية العائدة عبر المؤسسة العسكرية، ويرفض في الوقت ذاته الاصطفاف مع القوى المسلحة التي تمردت على هذه المنظومة، فإنه لا يُنتج موقعًا مستقلًا، بل يتموضع عمليًا داخل فراغ سياسي يكرّس الأمر الواقع. إن الحديث عن "الاستقلالية" دون تموضع صريح في مواجهة أدوات القهر البنيوية - وفي مقدمتها الجيش بوصفه المؤسسة الحارسة للامتيازات المركزية - ليس استقلالًا، بل تواطؤ مع البنية السلطوية من موقع التردد. بل إن رفض الاصطفاف، باسم الحياد الأخلاقي، في معركة واضحة بين قوى تطرح مشروعًا جديدًا للدولة، وقوى تتشبث بامتيازاتها العنيفة، لا يمكن اعتباره سوى إعادة تدوير لخطاب ما قبل الثورة، وتحييد للثورة نفسها. أما تحالف "تأسيس"، فقد تبنى بوضوح منطق الاصطفاف الجذري: إلى جانب المقموعين، مع مشروع السودان الجديد، مع الكفاح السلمي و المسلح كتعبير سياسي عن الهامش المغيّب، ومع إعادة التأسيس لا الترميم. وهو بذلك لم يُخفِ موقفه من بنية الدولة المركزية، بل أعلن أنه لا حياد في معركة الجذر.
ثالثًا: خطاب السلام المجرد من السياسة: بين تسوية عاجلة وتجريد للمظالم: يُروّج بيان "صمود" لما يسميه "الحل السياسي السلمي المتفاوض عليه كخيار أوحد"، ويغلف هذا الطرح بنداءات إنسانية مؤثرة تتحدث عن المعاناة، ولكنها تفصل المعاناة عن مسببيها، وتختزل الحرب إلى حالة عنف متبادل بين أطراف متكافئة. وهو بذلك يتورط في ما يمكن تسميته تجريدًا سياسيًا للصراع: أي الحديث عن الحرب دون تحليل من يقاتل ولماذا، ومن يدافع عن حقه في الأرض والكرامة فعليا، ومن يسعى لإعادة إنتاج الدولة المركزية بالقوة. الحرب الجارية ليست فقط معركة بنادق، بل هي صراع حول من يملك حق تشكيل المستقبل، ومن تُرك خارج صناعة الدولة لعقود. لذلك فإن السلام الحقيقي لا يبدأ بإسكات البنادق، بل بإسكات التمييز، ونزع امتيازات المركز، وفتح الطريق لعدالة تاريخية تعيد تشكيل العقد السياسي. هذا ما غاب كليًا عن موقف و بيان "صمود"، بينما حضر في صميم موقف و وثائق "تأسيس"، التي جعلت من مفاهيم مثل تقرير المصير والعدالة التاريخية محاور أساسية لمشروعها.
رابعًا: عن الإسلام السياسي والدولة الدينية – مواربة تعيد إنتاج البنية: يكتفي بيان "صمود" بالحديث عن "فصل الانتماء الديني عن الدولة"، دون أن يذهب خطوة أبعد نحو تسمية الإسلام السياسي كمؤسسة أيديولوجية عنصرية لعبت دورًا محوريًا في تأسيس الاستبداد والعنف الرمزي والمادي في السودان. إن استخدام عبارة غامضة مثل “الانتماء الديني” بدلاً من “الهيمنة الدينية” أو “الإسلام السياسي” ليس تعبيرًا عن دقة لغوية، بل عن احتيال سياسي. هذه اللغة لا تفضح البنية، بل تفاوضها لغويًا لإرضائها، وتعيد إنتاج التسوية الباردة التي تَساوى فيها الجلاد والضحية باسم التعايش. وهي بذلك تُبقي الباب مفتوحًا لاستمرار توظيف الدين في قهر الجماعات المهمشة، بدلًا من اتخاذ موقف مبدئي ضد الدولة الدينية أي كانت درجاتها. أما تحالف "تأسيس"، فقد تبنّى موقفًا واضحًا من العلمانية، لا بوصفها أيديولوجيا مناوئة للدين، بل كآلية لضمان حياد الدولة، ووسيلة لتحرير المجال السياسي من الاستعمال القمعي للدين. وقد انسجم هذا الموقف مع التجارب الثورية الكبرى التي رفضت الاستبداد باسم المقدّس، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الكوبية ومابينهما كثير.
خامسًا: عدالة بلا ذاكرة… إدانة بلا مشروع: يطرح بيان "صمود" مطلبًا بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الانتهاكات، لكنه يتجنب بناء تصور شامل للعدالة بوصفها مسارًا سياسيًا وتاريخيًا لا مجرد إجراء تقني. فلا حديث في البيان عن مجزرة القيادة العامة، ولا عن مذابح دارفور، ولا عن الإبادة كأداة تأسيسية للدولة المركزية. تغيب الشهادة، ويغيب الاعتراف، وتحضر لغة عامة حول "الانتهاكات"، بما يُفرغ مفهوم العدالة من مضمونه ويعيده إلى وظيفة تقنية بلا سياق. إن ما يقدمه البيان هو عدالة إنسانوية منزوعة الجذر، مفرغة من علاقتها ببنية الدولة، تُسوق بوصفها تعويضًا رمزيًا لا أفقًا ثوريًا. أما تحالف "تأسيس"، فقد ربط العدالة بمفهوم "العدالة التاريخية" كأفق لإعادة التأسيس السياسي والأخلاقي، وكمحور لاسترداد الكرامة الجماعية، لا مجرد محاسبة فردية على الجرائم وحسب. العدالة، عند “تأسيس”، ليست فقط تصفية حساب مع الماضي، بل هي ممر نحو سودان جديد لا يُبنى على النسيان، بل على الاعتراف والتحول الجذري.
خاتمة: السودان عند مفترق الطرق – لا مكان للحياد، ولا عودة لما سبق: إن السودان اليوم يقف عند مفترق طرق تاريخي حاسم: إما المضي في طريق التأسيس الجذري لدولة جديدة، تعترف بتعدد مكوناتها وتُعيد صياغة العقد السياسي على أسس العدالة والعلمانية والمساواة، أو العودة إلى دوامة التسويات الباردة التي كرّست القهر وسمّت الاستبداد "وحدة وطنية". لم تعد المجتمعات التي تمّ تهميشها وقمعها لعقود قابلةً للاحتواء عبر الخطابات الإصلاحية النخبوية. الوعي الشعبي الجديد، المتشكل من رماد الإبادة والمجازر والتشريد، صار اليوم هو اللاعب السياسي الأساسي. لم تعد دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وأطراف الخرطوم، تقبل بأن يتم الحديث باسمها دون تمثيلها، أو أن تُزجّ في معادلات سلام لا تُسمي الجناة ولا تعترف بالحق في تقرير المصير. إن تحالف "صمود" – في بيانه الأخير – لا يقدّم مخرجًا من الأزمة، بل يعيد تسويق وصفات قديمة، أثبت التاريخ القريب فشلها وخطورتها. وما يُطرَح الآن من دعوات لـ"كتلة مدنية مستقلة"، و"مائدة مستديرة جامعة"، و"فصل الانتماء الديني عن الدولة" لا يعدو أن يكون محاولة أخرى لتخدير وعي بات يقظًا، ومجتمعات أدركت أن لا حل دون كسر المركز وإعادة التأسيس. وقد قالها فرانز فانون بوضوح: كل جيل، في ظل ظروفه الخاصة، عليه أن يكتشف مهمته، إما أن يخونها أو ينجزها." جيل اليوم في السودان لا يسعى لتجديد النخب، بل يسعى لنسف البنية التي صنعت النخب على حساب الدم. أما الثوري التشيلي بابلو نيرودا، فقد اختصر المأزق بقوله: "يمكنك أن تقتلع كل الزهور، لكنك لن توقف الربيع." وصوت الربيع السوداني، وإن تغطى بركام الحرب، لا يزال حيًّا في صرخة المهمشين: لا نريد العودة، بل نطالب بالحق في البداية! وفي هذا السياق، فإن تحالف "تأسيس" لم يصطف مع "الدعم السريع" كقوة عسكرية، بل اصطف مع ما مثّلته لحظة التمرد من كسر لاحتكار المركز وتحدٍ لعنجهية الدولة القديمة. اختار التحالف أن يتموضع في المكان الأصعب: مع المسكوت عنهم، مع من جُرّدوا من الصوت، مع من لم تُكتب أسماؤهم في دساتير الخرطوم منذ الاستقلال. إن ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من البيانات المكرورة، بل ميثاقًا جذريًا شجاعًا يعترف بالحقوق السياسية والقومية والتاريخية لكل شعوب السودان، ويفتح الباب أمام التأسيس لا التدوير... والميثاق متاح! وختامًا، فإن ما بعد التردد هو التواطؤ، وما بعد الحياد هو التستر على الجريمة. لقد آن أوان المفاضلة: إما مع مشروع السودان الجديد، أو مع تأبيد القهر بشعارات ناعمة وعبارات مترددة. تحالف "تأسيس" هو مشروع لا يُرمم الدولة، بل يعيد هندسة أساسها من الجذر. لا صلح مع الإبادة، لا حياد في وجه العنصرية، ولا سلام بلا عدالة تاريخية
النضال مستمر والنصر اكيد
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة