17/5/2025 ، بوسطن عبد الحي يوسف.. بطل الحرابة من أرض العلمانية: في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وبينما يتسابق العالم نحو استكشاف الفضاء واستنطاق العلوم والعلماء، وتشر الفنون الابداع والسلام، لا يزال الشيخ عبد الحي يوسف يقف على منبره، متسلحاً بفتاوى مسترجعة من القرن السابع الميلادي، يحاول من خلالها إعادة السودانيين إلى عصور الجهل والظلام. في مشهد هزلي يعكس ازدواجية فاضحة، يقف الرجل بجلبابه القصير المصنوع في بلاد "الكفار"، على ظهر جواد أبيض، يتحدث عبر مكبر صوت "مصنوع في بلاد الكفار، وعبر شبكات اثيرية متلفزة مصنوعة بدورها في بلاد الكفار، يتحدث عن الغزوات ورفع السيوف، كما لو أن الزمن قد توقف عند عصر الفتوحات إياها... ثم ينصرف مترحلا علي ظهر دابة مصنوعة في بلاد الكفار.... لكن خلف هذه الصورة الباهتة تكمن سايكولوجية مريضة، تعكس رغبة عميقة في التمسك بالماضي، لا حباً في الماضي ذاته، بل حفاظاً على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية التي يوفرها الخطاب الديني الاستبدادي. عبد الحي يوسف، كغيره من دعاة الجمود، يخشى المستقبل لأن المستقبل يعني فقدان السيطرة على العقول، وفقدان القدرة على فرض الهيمنة الفكرية، وفقدان الأموال التي يجنيها من الترويج للتجهيل. إنه رجل محاصر بالخوف من حياة عصرية قد تسحب البساط من تحت قدميه، وتفضح هشاشته الفكرية وفقرة الإنساني. الشيخ عبد الحي يوسف، نموذج لرجل يخاف الحداثة لأنها تهدد مكانته كصاحب سلطة دينية. ففي ظل المجتمع الحديث القائم على العلم والتكنولوجيا، لن يحتاج الناس إلى فتاوى بالية تُجيز قتل الأبرياء وتبرر استبداد الطغاة. هذا هو جوهر مأزق عبد الحي يوسف: فهو يريد أن يُبقي السودان عالقاً في القرون الوسطى حتى لا يضطر لمواجهة عالم جديد لا مكان فيه لمن يتاجر بالدين. لكن ما الذي يدفع رجلاً يعيش في تركيا – الدولة العلمانية التي تكتظ بالشواطئ والحانات ومظاهر الحياة المدنية – إلى إصدار فتاوى تُجيز قتل ثلث السودانيين من أجل أن يعيش الثلث الآخر في ظل حكم البشير الديكتاتوري؟ إن هذه الفتوى وغيرها ليست مجرد موقف سياسي عابر، بل هي إعادة إنتاج لنمط تاريخي من الفتاوى التي كانت تُستخدم كأداة للسيطرة على العقول وتخدير الجماهير. ففي العصور المظلمة للدولة العباسية، كانت الفتاوى تُستغل لتبرير استبداد الخلفاء. من أبرز الأمثلة على ذلك، فتوى الخليفة المتوكل التي شرعنت قتل المعتزلة وسجن العلماء الذين عارضوا عقيدته، وعلى رأسهم أحمد بن نصر الخزاعي الذي تم قتله بطريقة وحشية عام 231هـ/846م بعد اتهامه بالكفر لأنه رفض الاعتراف بإلهية الخليفة! وفي العصر الحديث، أعادت الأنظمة الإسلامية في السودان إنتاج هذا النموذج من القمع الديني، بدءاً من حكم جعفر نميري الذي أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1983، وأعدم المفكر الإسلامي محمود محمد طه بتهمة "الردة" عام 1985. كان إعدام طه نقطة تحول في تاريخ السودان، حيث أعطت الفتوى الدينية غطاءً شرعياً للقتل السياسي، ورسخت ثقافة الإقصاء وتكفير الآخر. ثم جاء نظام الإنقاذ بزعامة البشير ليواصل تلك السياسة، مستعيناً بأمثال عبد الحي يوسف لتبرير قمع المعارضين وإسكات الأصوات الحرة. مُنعت الكتب، صودرت الأعمال الأدبية، وزُج بالمثقفين والفنانين في السجون بتهمة "الإساءة للدين" أو "تهديد الأمن القومي". ولعل أشهر هذه الحوادث كان اعتقال التشكيليين، ومنهم التشكيلي الراحل صلاح سليمان والادباء والروائيين مثل الأستاذ عبد العزيز بركة ساكن وغيرهم كثر. أما النساء، فقد كن الهدف الأكبر لهذا القمع. لم تقتصر فتاوى عبد الحي يوسف ومن هم على شاكلته على التضييق عليهن في ملبسهن وخروجهن إلى الشارع، بل كانت تلك الفتاوى سلاحاً لتبرير انتهاكات جسدية واعتداءات قمعية. خلال فترة حكم الإنقاذ، تعرضت آلاف النساء السودانيات لعقوبات الجلد علناً بذريعة "اللباس الفاضح"، وهي العقوبة التي نُفذت على نساء مهمشات من الأحياء الفقيرة والأسواق الشعبية، دون أي اعتبار لكرامتهن الإنسانية. ومن أشهر الحوادث، جلد فتاة قاصر في إحدى المحاكم بالعاصمة الخرطوم عام 2010، بحجة ارتدائها لبساً غير محتشم. وقد انتشر الفيديو الذي وثق عملية الجلد كالنار في الهشيم، ليثير ضجة عالمية حول وحشية النظام وقسوته تجاه النساء. وفي ذات السياق، تعرضت الناشطة ويني عمر للتشهير والتضييق لأنها رفضت الانصياع لقوانين اللباس القسري، مما يعكس توظيف الدين كأداة للسيطرة على النساء وتكريس التهميش الممنهج. وتكفي الإشارة إلى قضية الصحفية لبنى أحمد حسين التي حوكمت علناً لأنها ارتدت البنطال، في مشهد يعكس عمق التخلف والعسكرة الأخلاقية. ولم تكن تلك الممارسات سوى إعادة إنتاج لثقافة قمع النساء وتجريم حريتهن الشخصية باسم الدين، لتصبح أجسادهن ساحة حرب بين النظام السلطوي وقيم المجتمع المتحررة. لنعد إلى فتوي الشيخ عبد الحي يوسف الأخيرة بشأن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى السعودية. يقول الشيخ عبد الحي: "الرئيس الأمريكي ليس مجرد كافر، بل هو محارب...الخرالفتوي" وهنا، يستحضر الشيخ آيات الحرب والقتال، متجاهلاً أن العالم الحديث يعمل على بناء جسور التواصل والحوار بين الأمم، بينما هو يحاول قطعها بفتاوى تعيد إنتاج خطاب الحرابة والعداء- وهو علي جهله ضعيف البنية والبيان، ولاحول ولاقوة له ان يقاتل لمنجي في احدي حواري امدرمان القديمة! في زمن تتفاقم فيه الحروب والنزاعات ويعاني فيه العالم من موجات التطرف، ينتظر المؤمنون من رجال الدين أن يكونوا رسل سلام وحكمة، يدعون إلى نبذ العنف وحماية الأرواح. لكن عبد الحي يوسف، بدلاً من أن يسخر منبره لنشر التسامح والدعوة للتعايش السلمي، يستخدمه لإشعال نيران الفتنة واستدعاء معارك الماضي. القرآن نفسه يصرّح بأن "ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190)، إلا أن الشيخ يتجاهل هذه الدعوة، ويستحضر آيات القتال، مبتسراً السياق التاريخي ومتجاهلاً واقع العصر الحديث. إن الفتوى التي أطلقها ضد الرئيس الأمريكي ليست سوى إعادة إنتاج لنمط من الفتاوى العدائية التي استُخدمت لتبرير الحروب والقتل عبر التاريخ. في القرن الثاني عشر، أصدر رجال الدين في الأندلس فتاوى تدعو لقتل الفلاسفة والمفكرين باعتبارهم "أعداء الدين". وكانت النتيجة تدمير الحركة الفكرية وإغراق المنطقة في ظلام فكري استمر لقرون. واليوم، يستحضر عبد الحي يوسف نفس الخطاب العدائي، في زمن يحتاج فيه السودان إلى لغة الحوار وبناء جسور السلام بدلاً من إعادة تدوير مفاهيم الحرابة والعداء. لكن الفارق اليوم أن صوت الفتوى العدائية قد بات مكشوفاً، ولم تعد فتاوى التكفير والتحريض تجد طريقها إلى قلوب الشعوب التي باتت تدرك أن زمن الحروب المقدسة قد ولى، وأن رجال الدين الحقيقيين هم من يدعون إلى السلام والإصلاح، وليس إلى الحروب والحرابة. أما نفاق الشيخ فيكاد يكون أقرب إلى مشهد هزلي: فهو يعيش في تركيا، البلد الذي أسقط الخلافة الإسلامية واعتنق أما نفاق الشيخ فيكاد يكون أقرب إلى مشهد هزلي: فهو يعيش في تركيا، البلد الذي أسقط الخلافة الإسلامية واعتنق العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك. بل إنه يعيش على أرض علمانية، بينما يدعو الآخرين إلى رفض التحديث والحداثة. كيف لمن يعيش على أراضٍ بنيت على مبادئ العلمانية أن يدعو الآخرين إلى رفضها؟ لنفهم المفارقة بعمق، يجب أن نعود إلى عام 1923 عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية. كانت تركيا آنذاك دولة دينية منهكة، تعاني من الفقر والتخلف والانهيار الاقتصادي. تراجعها لم يكن سوى نتيجة مباشرة لسيطرة رجال الدين على السلطة وتحويل الدين إلى أداة لتسيير الدولة- رجال الدين كانوا مهوسين علي شاكلة عبد الحي يوسف الذي تأخر كثير! خلال القرون التي سبقت سقوط الخلافة، كانت الإمبراطورية العثمانية تئن تحت وطأة الفتاوى الرجعية التي أعاقت التحديث، وحاربت الفكر الحر، وأصدرت أحكاماً بالقتل والنفي ضد العلماء والمفكرين. على سبيل المثال، في القرن السابع عشر، أعدم السلطان مراد الرابع علماء اتهموا بـ"الكفر" بسبب محاولتهم إدخال تقنيات علمية جديدة. وفي القرن التاسع عشر، قاوم رجال الدين الإصلاحات الدستورية التي اقترحها السلطان عبد الحميد الثاني، ووصفوها بأنها "مؤامرة غربية" لكن النقطة الفاصلة جاءت مع أتاتورك الذي أدرك أن الدولة العثمانية انهارت بسبب فساد رجال الدين وتغلغلهم في مؤسسات الدولة. ومن هنا، بدأ في فصل الدين عن السياسة والتعليم، وألغى المحاكم الشرعية، وحظر اللباس الديني في المؤسسات الرسمية، وأسّس دولة حديثة تقوم على مبادئ العلمانية.
النتيجة؟ تحولت تركيا من دولة متخلفة إلى دولة حديثة، ازدهر فيها الاقتصاد، وانتعشت الفنون والآداب، وظهرت حركة فكرية إصلاحية قادها مثقفون من أمثال ضياء غوكالب وسعيد النورسي. أصبحت تركيا جزءاً من العالم الحديث، وباتت مثالاً لدولة اغلبها مسلمين لكنها علمانية مزدهرة!
والآن، عبد الحي يوسف يعيش في هذه الدولة التي بنيت على مبادئ العلمانية، يتمتع بحرياتها، ويستفيد من قوانينها التي تكفل له حق التعبير والتنقل. ولكنه، رغم ذلك، يدعو السودانيين إلى رفض الحداثة والتمسك بفتاوى القرون الوسطى التي دمرت الدولة العثمانية وأغرقتها في التخلف لعقود! ده كلام ده؟
لكن ماذا يريد عبد الحي يوسف للسودان؟ إنه يريد دولة دينية تسيرها الفتاوى، وتقمع الفكر الحر، وتجرم الفنون والآداب، وتلاحق النساء في لباسهن وتضطهد الأقليات بحجة حماية الدين. إنه يريد إعادة السودان إلى النموذج العثماني الذي أغرق الدولة في مستنقع الفساد والتخلف.
لكن السودان الذي يرزح تحت وطأة الحروب والنزاعات الأهلية، وتفشي الفقر والفساد، لن ينهض إذا استسلم مرة أخرى لنماذج الجهل والتخلف التي يدعو إليها عبد الحي يوسف وأمثاله. فهؤلاء يعيشون خارج التاريخ، يكررون خطاباً عفا عليه الزمن، بينما يتجه العالم نحو الذكاء الاصطناعي، والعلم، والتعليم والسلام.
إن عبد الحي يوسف، الذي برر قتل المعتصمين في ساحة القيادة العامة بحجة أن "قتل الثلث ليعيش الثلثان"، هو ذاته الذي طالب السودانيين بالخنوع لحكم البشير مقابل الملايين التي كان يتلقاها من النظام البائد. وهذا السلوك ليس سوى إعادة تدوير لنموذج فساد ديني سبق أن شهدناه في تاريخ الدولة العثمانية عندما كان شيوخ السلطان يتقاضون الأموال لتبرير الفساد والظلم.
فتاوى الشيخ ليست سوى قنابل دخانية يُطلقها في وجه السودانيين لإعادتهم إلى القرون الوسطى. وبينما يتطور العالم في مجالات التفكير الحر، والتكنلوجيا والفضاء، يصر هو على أن يعيش في عوالم الخرافة والتجهيل. وفي الوقت الذي يسعى فيه الشباب السوداني لبناء دولة علمانية ديمقراطية تقوم على الحرية والعدالة، يأتي عبد الحي يوسف ليبث سمومه من خلال فتاوى تتعامل مع الواقع المعاصر كما لو أنه عدو للتطور والاستنارة.
إن السودان الذي يحلم به الشعب السوداني اليوم هو سودان الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وليس سودان الشيخ عبد الحي الذي يرى في قتل ثلث السكان فرصة للثلثين في المئة المتبقية لتعيش تحت ظل الطغاة. السودان لن يكون دولة سوية ولن ينهض من رماده إذا لم يُهزم دعاة الجهل والتخلف، أولئك الذين يعيشون خارج التاريخ، يكررون خطاب الفتاوى العمياء، ويبيعون للناس الأوهام، بينما هم أنفسهم يهربون إلى دول الحداثة والعلمانية التي تضمن لهم الحياة الكريمة.
عذراً، يا شيخ عبد الحي، زمنك قد ولّى. والسودان الذي تريد إعادته إلى القرون الوسطى قد غادر تلك الحقبة إلى غير رجعة. أما أنت، فابقَ في تركيا العلمانية، واجمع الأموال ما استطعت،
وهل يحتاج عبد الحي يوسف لتذكرة عودة إلى القرون الوسطى؟
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة