هل السودان جمهورية مواطنين أم إقطاعية نخب؟ العنصرية السلبية في الخطاب الوطني السوداني
مدخل: في أدبيات الفكر النقدي والاجتماعي، تُعرَّف العنصرية التقليدية (Traditional or Overt Racism) بأنها المظهر الصريح للتمييز العرقي، حيث تُعلَن الهيمنة العرقية أو الثقافية دون مواربة، وغالباً ما تُترجم إلى ممارسات إقصائية واضحة تشمل التمييز في القانون، والسياسات، واللغة، والإعلام، وحتى في التوزيع المكاني داخل الدولة. هذه هي العنصرية الظاهرة التي يعرفها الجميع والتي تُدينها المواثيق الدولية لأنها تُجاهر بالاستعلاء وتُحقّر المساواة. لكن الوجه الأخطر للعنصرية – كما أشارت الكاتبة والمنظّرة النسوية بيل هوكس – لا يكمن في الكراهية المعلنة، بل في التواطؤ الصامت. تقول بيل هوكس: "العنصرية لا تحتاج أن تُصرّح بنفسها، بل يكفي أن تظل موجودة في البنية... أن تكون جزءًا من الهواء الذي نتنفسه." هذا ما نُسميه العنصرية السلبية. (Passive or Covert Racism) وهي عنصرية تتسلل إلى النسيج الاجتماعي والفضاء الثقافي، حيث لا يُعبَّر عن الاعتقاد بالتفوق العرقي بصوت عالٍ، بل بصمتٍ عميق. إنها اللامبالاة، السكوت عن الظلم، وقبول اللامساواة بوصفها "طبيعية"، وغضّ النظر عن أصوات التهميش والمعاناة – حتى من داخل النخب التي ترفع شعارات العدالة. وهذا هو الواقع السوداني في أوسع تجلياته هذا النوع من العنصرية – كما وصفه الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين – هو "الصمت المُريع الذي يحيط بالألم حين لا يُعترف به، ولا يُواجه." هنا، لا يكون الصمت مجرد غياب للكلام، بل هو فعل سلطوي، تواطؤ مع الظلم، وإعادة إنتاج لدورة القمع والاستبعاد. في السياق السوداني، لا يمكن فهم بنية الدولة أو فشل المشاريع المسماة بالمشاريع الوطنية دون مساءلة هذا النمط من العنصرية. فالنخبة السودانية، منذ ما قبل الاستقلال، لم تكن فقط ضحية لعنف الاستعمار، بل كانت – في كثير من الأحيان – وارثة لبنيته الثقافية التراتبية، ومُكرّسة لها، وهو ما استمر في تجلياتها الاجتماعية والسياسية حتى اليوم وقد ظل أصدقاء مثل الأستاذ فارس موسى، أبكر آدم إسماعيل، وعادل شالوكا وغيرهم، يكتبون عن هذا الواقع في الأسافير وفي فضاءات متعددة، مسلطين الضوء على أن اللامساواة ليست مجرد ممارسات فردية، بل هي بنية عميقة تكرّسها المؤسسات والنخب عبر تراتيبيات حياتية محسومة الامر. انشغل ما يُسمى بالآباء المؤسسين بتحقيق الاستقلال السياسي ثم المكاسب الطائفية والشخصية، بينما أبقوا على البنية الاجتماعية كما هي: مركز متفوق وهامش تابع، لون أعلى ولون أدنى، لغة تُمنح السيادة وأخرى تُقصى إلى هوامش التخلف. وهكذا، لم تكن العنصرية مجرد سلوك اجتماعي، بل بنية متكاملة حافظت على الامتيازات وحمتها بقوة السلطة والسيطرة على الخطاب الوطني.
هنا تنطبق مقولة المفكر الافروامريكي ريتشارد رايت حين كتب عن أمريكا السوداء: "لم يكن عليّ فقط أن أحمل سوادي على ظهري، بل أن أُقنع الآخرين أنه ليس عبئًا، وأن أُثبت للبيض أنني لا أهدد نظامهم." وفي السودان، كثير من أبناء الهامش اضطروا لفعل الشيء نفسه، لا لتجاوز التمييز وحسب، بل لينالوا الاعتراف داخل فضاء وخطاب نخبوي لا يعترف أصلاً بوجودهم كذوات كاملة- مخلوقات لا أرواح لها- هذا هو الاعتقاد السائد. في التحليل السيكولوجي، يرى علماء مثل فرانتز فانون أن العنصرية حين تُمارس بوسائل ناعمة، فإنها لا تقلّ خطورة عن العنف المباشر، لأنها تنتج ما يسميه بـ “الذات المُستلبة”: أي إنسان يعيش في جسده، لكنه يُنظر إليه دائمًا من مرآة الآخر المركزي، ويتحدث بلسان لا يعبر عن ذاته. العنصرية السلبية في السودان تعمل كـ بنية تحتية غير مرئية، لكنها فعّالة ومؤثرة. تتجلى في التعليم، في الإعلام، في المعمار، في الشعر، في الصور النمطية، وفي الصمت العام عن المذابح حين تكون ضحاياها من أقصى البلاد. وهي عنصرية تمارسها النخب حتى حين تتحدث عن العدالة، لأنها، كما تقول أنجيلا ديفيس: "إذا لم يكن نضالك مرتبطًا جذريًا بمن تقصيهم البنية، فأنت ببساطة تكرر البنية ذاتها بشكل جديد." إن تاريخ النخبة السودانية – بكل استثناءاته النبيلة – لم يُنتج قطيعة واضحة مع هذا النمط من العنصرية للاسف. بل كثيرًا ما أعاد تدويره، إمّا عبر تجاهل مطالب الهامش، أو عبر توظيفها تكتيكيًا دون تبنٍّ مبدئي وصادق لها، في لحظات من اكثر الانتهازية السياسية مباشرة. من هنا، فالعنصرية السلبية لا تُمثّل ظاهرة عرضية أو سلوكًا فرديًا، بل بنية عقلية واجتماعية وثقافية متوارثة. وهي، لهذا السبب، لا تُرى بسهولة، لكنها تفعل فعلها العميق في إنتاج السياسات، وترسيم الحدود، وتحديد من يُحكى عنه، ومن يُنسى. ولأنها عنصرية لا تُعلن عن نفسها، فإن مواجهتها تتطلب تفكيكًا فكريًا جذريًا، لا مجرد خطابات طيبة النوايا.
منطلق الورقة: تسعى هذه الورقة إلى تتبّع جذور هذه الظاهرة كما تشكلت في التاريخ السوداني الحديث. نبدأ بوثيقة "كرامة المواطنين" عام 1925، باعتبارها محاولة أولى للتعبير عن الذات الوطنية، ولكنها تجاهلت الأسئلة البنيوية حول التراتب العرقي والثقافي داخل البلاد. ثم ننتقل إلى تحليل الطريقة التي أعادت بها النخب السياسية والثقافية إنتاج اللامساواة دون إعلانها، من خلال الأدب، والبيروقراطية، والتعليم، والسياسات المركزية. و سنسعى أيضًا إلى فهم كيف ساهم هذا النمط الخفي من التمييز في إيصال البلاد إلى حالة الحرب الحالية، وكيف شكّل أساسًا صلبًا لاستمرار المنظومات القمعية، حتى في لحظات الثورة. فمن دون تفكيك هذه البنية العميقة، لا يمكن الحديث عن سودان جديد، ولا يمكن تخيّل تحرّر حقيقي، كما قالت المفكرة الافروامريكية بيل هوكس: "لا يمكننا التقدم إذا لم نواجه ما نخشى أن نراه في أنفسنا" والسؤال الآن هو: هل تملك نخب السودان الشجاعة لتواجه هذا المرآة؟ أم أنها ستُمعن في النظر بعيدًا كعادتها، بينما تتكرر المآسي بصيغ جديدة بينما تكرر نكرانها احيانا احتيالها أحيانا اخري؟
أولاً: وثيقة كرام المواطنين 1925 كبداية مهملة موثقة في مسار العنصرية السلبية: في مارس 1925، وفي أعقاب اغتيال الحاكم العام البريطاني السير لي ستاك، صدرت مذكرة "كرام المواطنين" من قِبل مجموعة من الضباط السودانيين، متوجهة إلى مدير المخابرات في الخرطوم. ركزت الوثيقة على المطالبة بإلغاء الامتيازات الاستعمارية وتحقيق المساواة بين السودانيين والبريطانيين في أجهزة الحكم والإدارة. وعلى الرغم من اعتبارها في حينه تعبيراً عن بداية وعي سياسي وطني، إلا أن القراءة النقدية التاريخية – السيكولوجية تكشف عن جانب آخر للوثيقة باعتبارها نصاً مؤسساً لإغفال التفاوتات البنيوية الداخلية، وتجاهل منظومات الامتياز والتمييز العرقي والثقافي والاجتماعي. الوثيقة لم تكن فقط تعبيراً عن تظلم تجاه المستعمر، بل كانت أيضاً تأسيساً ضمنياً لفكرة "المواطنين الأرقاء"، وهو مفهوم عنصري تجسّد في نبرة الوصاية على السودانيين غير العرب، ووصفهم بشكل غير مباشر بأنهم أقل شأناً وأقل استحقاقاً للحقوق الكاملة. هذه اللغة العنصرية تجد امتداداً في الوثائق اللاحقة مثل دستور 1956 الذي لم يراعِ حقوق الأقاليم المهمشة، وفي خطابات النظام المركزي التي وصفت سكان دارفور وجبال النوبة بـ"الأتباع"، مما أسس لاستدامة التراتبية الاجتماعية – العرقية. انشغلت الوثيقة بصراع القوة مع المستعمر، دون مساءلة التراتبية الداخلية التي هندسها الاستعمار ثم ورثتها النخبة السودانية لاحقاً. وهو ما يشبه ما أشار إليه المؤرخ هوارد زن في كتابه "A People's History of the United States" بالعنف البنيوي الصامت الذي تمارسه النخب باسم الوطنية. فالوثيقة لم تتطرق إلى التمييز العرقي – الجهوي داخل المجتمع السوداني، ولا إلى احتكار الشمال النيلي للسلطة والثروة والتعليم على حساب بقية الأقاليم. وفي السياق الاقتصادي، لم تتناول الوثيقة مسألة توزيع الأراضي أو ملكيتها في المشاريع الكبرى مثل مشروع الجزيرة، حيث احتُكرت الأراضي من قبل نخب واثنيات بعينها، بينما ظلت جماعات الهامش في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، خارج معادلة الحيازة والإدارة والربح، دون حماية قانونية لأراضيهم الأصلية. هذا النمط من التهميش الاقتصادي – الاجتماعي يماثل ما ورد في "مذكرة كرامة المواطنين" كمثال بارز على استمرارية هذه المنظومات، ويتقاطع مع وثائق أخرى في سياق الحقبة الاستعمارية وما بعدها، مثل مذكرات مؤتمر الخريجين 1938، ودستور 1956، ووثائق المركزية الإسلامية 1983 تعليميًا، تمركزت المؤسسات التعليمية العليا في الحواضر المركزية، واحتُكرت فرص الترقي الأكاديمي والوظيفي لعائلات معينة، ما أدى إلى تكوين نخبة بيروقراطية ارتبطت بمناطق وثقافات محددة، بينما أُقصيت أقاليم كاملة من الدخول المتكافئ إلى فضاء الدولة الوطنية، واستمر هذا الوضع الي يومنا هذا. هذا التمييز الممنهج أعاد إنتاج نفسه على مدى عقود، فكان أبناء الهامش يُستدعون للجيش أو الخدمة كعمال موسميين، دون تمثيل سياسي حقيقي ولاحق في الثروة. وهو ما تسميه أنجيلا ديفيس بـ"التمييز المتخفي في خطاب المساواة"، حيث يبدو المشروع وطنيًا، لكنه يقوم على إقصاء فعلي ومستمر. ويُظهر تاريخ ما بعد الاستعمار في آسيا وإفريقيا حالات مشابهة: في الهند، ظل الداليت (المنبوذون) مهمّشين رغم الاستقلال؛ وفي الجزائر، احتُكرت الدولة من قبل شبكة ضيقة من نخب الثورة والجيش، مع تجاهل طويل لمطالب الأمازيغ والهضاب العليا؛ وفي نيجيريا، تم تقاسم السلطة بين ثلاث قوميات كبرى بعد الاستقلال، بينما أُقصيت عشرات القوميات، ما أدى إلى نشوب حرب بيافرا الدموية (1967–1970 بحسب بيل هوكس، فإن هذا النوع من التواطؤ النخبوي ليس انحرافًا طارئًا، بل هو جزء من "إعادة إنتاج السلطة من داخل خطاب المقاومة". فالمقاومة الشكلية للاستعمار الانجليزي لم تكن كافية لتفكيك منظومة الامتيازات التي كرسها. وهكذا، تم بناء دولة ما بعد الاستعمار في السودان على قاعدة عنصرية إقصائية، لا تعترف إلا بجزء من السودان، وتُقصي البقية باسم "الهوية الوطنية". وبالتالي، فإن وثيقة كرامة المواطنين، رغم رمزيتها، لم تكن لحظة شاملة للكرامة الوطنية لكل السودانيين، بل كانت لحظة جزئية تحصر الكرامة في مواجهة الآخر الأجنبي، دون الالتفات للظلم المتجذر داخل الذات الوطنية نفسها. وهو ما أدى إلى تراكم مظالم الهامش، وتحوّلها لاحقًا إلى حركات مقاومة، وثورات مدنية ومسلحة، وانفصالات. إن غياب المساءلة لبنية الدولة المركزية، واستمرار تصوّر السودان كوحدة ثقافية متجانسة، خلق فراغًا سياسيًا وأخلاقيًا، لم يُملأ حتى اليوم. وهو ما يجعل وثيقة كرامة المواطنين لحظة تأسيس مزدوجة: بداية للوعي الوطني من جهة، وبداية للتاسيس للعنصرية السلبية المؤسسية من جهة أخرى. وإذا لم تُقرأ هذه اللحظة بوعي نقدي، فلن يكون ممكنًا بناء عقد اجتماعي جديد يُنهي الإقصاء البنيوي، ويمنح لكل السودانيين بمختلف أعراقهم وأقاليمهم كرامتهم المستحقة، كما يجب أن تكون لا كما قررتها النخبة من علٍ.
ثانيًا: من تجاهل العدالة إلى فرض الهوية الأحادية: تحولات المواطنة في السودان: أدى تجاهل النخب السودانية المبكر لقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كما تجلى في ملفات الأرض، والتعليم، والتمثيل الوظيفي، إلى تأسيس مفهوم هش ومنقوص للمواطنة. ففي حين أن المواطنة في الفهم السياسي–الفلسفي الحديث تقوم على المساواة الكاملة أمام القانون، وضمان الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية لكل المواطنين دون تمييز، فإن النسخة السودانية منها تأسست منذ فجر الاستقلال على مواطنة شكلية، تُخفي وراءها تفاوتات جوهرية، وإقصاءً ثقافيًا، وتفاضلًا عرقيًا وجهويًا صارخًا. هذه المواطنة المبتورة لم تكن حيادية، بل كانت مؤطره ضمن مشروع قومي زائف تبنته النخبة الحاكمة، وسعت من خلاله إلى فرض نموذج واحد للهوية السودانية، يقوم على تصور السودان كدولة عربية إسلامية نقية، في تجاهل متعمد أو غير واعٍ للتنوع العرقي والديني والثقافي العميق الذي يتأسس عليه المجتمع السوداني. وقد تجلى هذا المشروع عبر: فرض اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة، دون الاعتراف بلغات أخرى كالنوبية، والتقراي، والزغاوة، والمساليت، وغيرها من اللغات المحلية ذات الحمولة الحضارية. وهنا يمكن مراجع كتابات الدكتور شركيان. تقديم الثقافة العربية–الإسلامية كمقياس للوطنية والتحضر، مقابل اختزال الثقافات الإفريقية الأصلية في خانة "الجهل" و"الريفية" و"البدائية". تسويق خطاب قومي وحدوي يعادي أي تعبير عن الخصوصيات الثقافية أو الدينية، باعتبارها تهديدًا لـ"وحدة البلاد".
كما أشار المفكر البريطاني هيربرت ريد: (Herbert Read) في حديثه عن الفن والمجتمع، فإن فرض نمط واحد للثقافة على مجتمع متنوع هو بمثابة "قطع القوس اللغوي للمجتمع إلى نصفين، وادعاء أن النصف المتبقي هو الكل". هذا ما حدث في السودان بالضبط: لقد تم تفكيك هوية البلاد التعددية لصالح سردية أحادية خانقة، عُدّت وحدها معيار الانتماء، المواطنة الكاملة بل والإنسانية. وقد بيّنت الباحثة الأمريكية غلوريا أنزالدوا (Gloria Anzaldúa) أن المجتمعات الممزوجة ثقافيًا – أو ما تسميه "الحدود الهوياتية" – ترفض الذوبان داخل هوية مهيمنة، وتطالب باعتراف متكافئ دون شروط. لكن النخبة السودانية لم تسمح بنمو هذه "الهوية الهجينة"، بل سعت إلى إلغائها أو تعريبها قسرًا. وقد رأينا كيف أدت هذه السياسات إلى تفكيك عملي للبنية الوطنية: - فالدساتير الانتقالية والنهائية المتتالية لم تعترف بالتنوع إلا بخجل، ودون أثر مؤسسي حقيقي - لم يتم بناء نظام تعليمي متنوع ومتعدد اللغات والهويات، بل تم اعتماد منهج موحّد يعيد إنتاج الهيمنة الثقافية - تم عسكرة الدولة والمجتمع، خصوصًا في الأقاليم المهمشة، واستخدام العنف لإسكات أي مطالب محلية، كما حدث في الجنوب قبل انفصاله، ولاحقًا في دارفور وجبال النوبة والفونج الجديد، وما الحرب المستمرة الان الا تجلي لهذا التهميش. هذا التوحيد القسري للهُوية أسس لما يسميه المفكر النرويجي يوهان غالتونغ بـ"العنف البنيوي"، أي غياب العدالة والفرص المتكافئة، لا من خلال القتل المباشر فقط، بل عبر نظم وقوانين تُقصي وتُخفي. فالمواطنة لم تكن حالة قانونية، بل تراتبية ثقافية. وسنعالج قضية التمازج الثقافي والوحدة والتعدد في مقال اخر). عموما، وعلى غرار ما حدث في كندا مع السكان الأصليين، أو في أستراليا مع الأبورجين، حيث قاومت المجتمعات الأصلية محاولات الذوبان في الهويات الأوروبية الوافدة، فقد قاومت مجتمعات السودان الأصيلة هذا المشروع، ودفعت أثمانًا باهظة من أجل الظهور والاعتراف. إن مشروع "الهوية الأحادية" لم يكن مشروع تنمية وطنية، بل مشروع إنكار مقنّع. وبدل أن تكون الهوية فضاءً جامعًا، تحولت إلى أداة عنف سياسي ثقافي. وقد أدّى هذا إلى انهيار تدريجي لفكرة الدولة نفسها، إذ لم يعد للهامش مكانٌ في سردية الوطن كما عبرت عنه النخب. وهكذا، فإن القوى التي مارست العنصرية السلبية لم تكتف بتهميش الآخر، بل أعادت إنتاج ذلك التهميش في قالب "مدني"، عبر الإعلام، المناهج، والقوانين. وكما أشار جيمس بالدوين، فإن أخطر أنواع العنف هو "ذلك الذي يُرتكب بدم بارد تحت اسم النظام والاحترام" إن السودان الحديث لم يُقصّ فقط أبناءه المختلفين، بل أنكر حقهم في أن يكونوا شركاء في صياغة معنى الوطن. وهو ما يُفسر – جذريًا – الحروب الأهلية، والانفصالات، والثورات المتكررة، بوصفها ردودًا على نفي الوجود، لا فقط على الظلم وهذا ما يجعل اليوم، من مشروع السودان الجديد، فرصة تاريخية لإعادة تعريف المواطنة لا بوصفها حالة ورقية، بل كعقد تعددي حي، يعترف بالكل، دون فرض للاندماج أو للذوبان، بل عبر هندسة جديدة للعيش المشترك. الامر الان بيد القائمين علي تحالف تأسيس، ان يتبنوا مشروعا يتفوق علي ما قامت به النخب في التأسيس الأول!
ثالثًا: من المواطنة المجتزأة إلى الانفجار الوطني: الحروب الأهلية وتفكك الدولة: إن أحد أخطر نتائج العنصرية السلبية والهيمنة الثقافية التي مارستها وتمارسها النخب السودانية منذ الاستقلال هو إنتاج مفهوم مشوَّه للمواطنة. إذ تأسست الدولة الوطنية على مفهوم انتقائي، تُمنح فيه المواطنة لا على أساس الحقوق، بل على أساس القرب من ثقافة وهوية محددة، متماهية مع المركز النيلي العربي الإسلامي، ما أدى إلى إقصاء ملايين المواطنين من الاعتراف الكامل بهم كأعضاء متساوين في المجتمع السياسي. المفكرة النسوية والمناهضة للعنصرية بيل هوكس وصفت هذا النوع من المواطنة بـ"المواطنة المحدودة بالامتياز"، التي تسمح للبعض بالمشاركة في الدولة، بينما تُقصي الآخرين عبر آليات غير معلنة من العزل. في الحالة السودانية، أُنتجت هذه الآليات من خلال خطاب قومي زائف، وصياغة دساتير مؤقتة لم تعترف بالتعدد، ونظام تعليمي وإداري يعيد إنتاج الامتيازات الجهوية والإثنية. وقد أشار المفكر الثوري مالكوم إكس إلى أن أي مجتمع يبني هويته السياسية على التفوق العرقي أو الثقافي، يخلق "ديمقراطية مزيفة لا تعني إلا النخبة"، وهذا هو ما حدث تمامًا في السودان: دولة تسوّق لوحدة وطنية، بينما تستبعد ثقافيًا واجتماعيًا قطاعات واسعة من مواطنيها. فرانتز فانون في كتابه "المعذَّبون في الأرض" بيّن بوضوح كيف أن النخب الوطنية في دول ما بعد الاستعمار غالبًا ما تُعيد إنتاج نظم الهيمنة التي وضعها الاستعمار، ولكن بلسان محلي. وفي السودان، حافظت النخبة بعد الاستقلال على البنية الاستعمارية التي قسمت البلاد إلى مركز وهامش، ثم أضافت إليها طبقات من الشرعية الدينية والثقافية المستندة إلى خطاب عربي إسلامي، مُحكمة إغلاق دوائر التمثيل السياسي والاجتماعي. تحليل بروفيسور محمود ممداني رغم تحفظاتنا علي الكثير من اراءه الا انه في كتابه "المواطن والرعية" يضيء هذه البنية عندما يوضح أن الدولة الاستعمارية أقامت نظامًا ثنائيًا للفئات: مواطنون يتمتعون بحقوق مدنية، ورعايا يُحكمون عبر القوانين العرفية، بلا حماية قانونية فعلية. هذه البنية لم تتغير بعد الاستقلال، بل تعمّقت عبر القوانين، وتوزيع الموارد، والسياسات التعليمية والاعلامية. الباحث البريطاني أليكس دي وال أشار مرارًا إلى أن الدولة السودانية الحديثة لم تُصمم لتكون شاملة، بل كآلية للتحكم والسيطرة على الموارد عبر تحالفات ضيقة. واعتبر أن الحرب في دارفور، وفي الجنوب قبل الانفصال، هي تعبير مباشر عن انهيار فكرة "المركز الوطني"، واستحالة قيام عقد اجتماعي لم يَبنَ على المواطنة. في هذا السياق، تتجسد الحروب الأهلية السودانية بوصفها نتاجًا لبنية مواطنة ناقصة، لا مجرد نتيجة لصراعات قبلية أو فشل إداري كما يحاول البعض التسويق وبسطحية. فالصراع في الجنوب، والنزاعات في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، كلها تعبيرات عن رفض شعبي عميق لهيمنة الدولة المركزية التي تمارس الإقصاء لا باسم الطغيان فقط، بل أحيانًا باسم الوطنية والدين، ولكن الامر كما نري اكثر عمقا وتعقيدا. وقد ذهب تشارلز تيلي إلى القول إن الدول التي تُقصي بعض شعوبها من التمثيل المتساوي، تفقد شرعية احتكار العنف، وتتحول إلى أطراف في صراعات أهلية. وهذا ما حدث في السودان حين لم تعد الدولة تُرى كمؤسسة راعية للعدالة ولا للانصاف، بل كأداة استلاب وتفوق. أنجيلا ديفيس تؤكد أن الديمقراطية لا تُقاس فقط بوجود الانتخابات، بل بوجود مسارات للمشاركة المتساوية والكرامة. وفي السودان، ما تم تقديمه كدولة ديمقراطية لم يكن أكثر من واجهة تخفي عنفًا بنيويًا رهيبًا. وإذا كان مثال جنوب إفريقيا قد قدّم لاحقًا نموذجًا للعدالة الانتقالية والمساءلة، فإن السودان لم يشهد أبدًا لحظة نقد ذاتي شاملة من نخبه الحاكمة. ولم يُطرح مشروعٌ وطني بديل يعترف بالمظالم حتي، بل ظلت النخب تحتال و تنكر، وتعيد إنتاج التفوق الأخلاقي والسياسي لخطابها. وهكذا، فإن انهيار الدولة السودانية، وتمزق نسيجها، لم يكن فجائيًا، بل هو النتيجة المنطقية لعقود من الإنكار البنيوي للتعدد، والعدالة، والمواطنة المتساوية. ولذا، لا يمكن أن تنهض الدولة مجددًا دون مساءلة هذا التاريخ، ودون تأسيس مواطنة جديدة غير مشروطة، تنبع من القبول بالاختلاف، لا من محوه، وهذا لايتم الا عبر مشروع للعدالة التاريخية.
رابعًا: العنصرية السلبية كظاهرة نفسية/ اجتماعية بين النخب السودانية: من منظور علم النفس الاجتماعي والتحليل الثقافي، تُعد العنصرية السلبية واحدة من أكثر أشكال التحيز رسوخًا، لأنها تعمل في الخفاء، وتتمظهر عبر مؤسسات الدولة والخطاب العام دون أن تُعلن عن نفسها كعنصرية مباشرة. ولفهم هذا النوع من العنصرية السائدة داخل السياق السوداني، لا بد من تفكيك البنية النفسية والاجتماعية للنخب التي مارستها، وتمارسها عن قصد أو غير قصد، على مدار القرن الحادي والعشرين. سيكولوجيًا، ترتكز العنصرية السلبية على آليات دفاعية كلاسيكية مثل: الإنكار (Denial): رفض الاعتراف بوجود تمييز أو مظالم من اصلو. الإسقاط (Projection): إلقاء اللوم على المهمشين أنفسهم، أو اعتبارهم غير مستحقين وقد كتبنا عدة مقالات في اختبار حجج اكاديميين سودانيين مرموقين مثل الدكتور عبد الله علي إبراهيم. هذه الحجج وصفها الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رايت بأنها "سلوك يبرر امتيازات غير مبررة"، حيث يحوّل الامتياز إلى فضيلة، والمظلوم إلى سبب ظلمه. في السودان، لعبت النخبة دورًا محوريًا في تكريس هذا النمط من التفكير، عبر ما يمكن تسميته بـ"العقلية الحظوية" – وهي تعني التماهي مع الامتيازات الاجتماعية، العرقية باعتبارها أمرًا طبيعيًا، لا نتاجًا لبنية استعمارية وما بعد الاستعمارية. هذه العقلية خلقت إنكارًا مستدامًا لوجود مظالم عميقة تجاه الفئات المهمشة، خاصة في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، والهامش الشرقي. إدوارد سعيد، في "الاستشراق"، أشار إلى أن الهيمنة الثقافية الأكثر فاعلية هي تلك التي تُمارس دون عنف، عبر المؤسسات والخطاب. وهذا ما حدث في السودان من خلال السياسات التعليمية التي همّشت اللغات والثقافات غير العربية، والإعلام الرسمي الذي قدّم الهوية العربية الإسلامية كمعيار للوطنية، وتجاهل عمق التعدد السوداني. الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو تحدث عن "العنف الرمزي"، أي السلطة التي تُمارس من خلال تطبيع التفاوت، وجعله يبدو طبيعيًا. في السودان، تم ترميز الهيمنة الإثنية والثقافية عبر الدولة نفسها، حيث أصبح التفاوت الاجتماعي مشروعًا ضمنيًا يتكفل به التعليم، والإعلام، والدين، لا بوصفهم أدوات محايدة، بل كأجهزة تُعيد إنتاج الامتياز. وقد بيّن أشيل مبمبي أن المجتمعات ما بعد الاستعمار غالبًا ما تُبقي مستعمراتها الداخلية – تلك المناطق أو الشعوب التي لا تزال خارج مشروع الدولة الوطنية – دون مساءلة. وفي السودان، كانت المناطق المهمشة بمثابة هذه المستعمرات، تُدار بالقوة، وتُحرَم من التعليم والخدمات، وتُستدعى فقط في اللحظات العسكرية. المفكر النرويجي يـوهن غالتونغ أوضح أن العنف البنيوي لا يُقاس بما يحدث من عنف ظاهر، بل بما لا يحدث: حين يُحرم الناس من الفرص، ويُعاد إنتاج غيابهم، وتُلغى أصواتهم من الفضاء العام. هذا هو جوهر العنصرية السلبية التي مارستها النخب السودانية. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم بطء التغيير في السودان دون استدعاء مقولات مثل مقولة أنجيلا ديفيس: "لن يكفي أن نكون غير عنصريين، علينا أن نكون مناهضين للعنصرية". فالسودان الرسمي تبنى خطابًا ظاهريًا عن الوطنية والعدالة، لكنه فشل في اجتراح سياسات تضمن المواطنة المتساوية، أو تُنهي التهميش البنيوي. المفكر الألماني أرفينغ غوفمان حلل كيف تُبنى هويات مزيفة عبر أنظمة الوصم، وهو ما ينطبق على خطاب النخبة في السودان تجاه سكان الهامش، حيث يتم تقديمهم دائمًا في صورة العاجز أو المتمرد أو البدائي، بينما يُرى المركز النيلي بوصفه مركز الحكمة والاستقرار. وقد أشار الباحث البريطاني أليكس دي وال إلى أن النخبة السودانية فشلت في إنتاج مشروع وطني جامع لأنها لم تملك الرغبة الحقيقية في الاعتراف بالآخر. واعتبر أن السياسة السودانية، منذ الاستقلال، بُنيت على أنقاض شراكة انتقائية، لا على مبدأ الاعتراف بالتنوع.
خامسًا: الحظوة كجهاز أيديولوجي ناعم للقمع: من المفيد استدعاء تحليل لوي ألتوسير حول "الأجهزة الأيديولوجية للدولة"، حيث يرى أن المدرسة، والإعلام، والدين، ليست أدوات بريئة، بل أنظمة تعمل على ترسيخ الطبقية والتفاوت من خلال ما يبدو طبيعيًا. في السودان، تجسدت هذه الأجهزة في بنية ثقافية كاملة أسّست للتفوق العرقي دون أن تُسمّيه. الهوية النيلية العربية لم تُفرض بالقوة فقط، بل تم ترميزها كهوية معيارية في الإعلام، والشعر، والخطاب السياسي. وتم تصوير التعدد لا كثراء، بل كعائق للوحدة. وقد وصفها مالكوم إكس بأنها "ديمقراطية للبيض بلغة السود"، أي مشروع قومي ظاهره المساواة، لكن بنيته قائمة على محو الآخر. وقد استخدمت النخبة خطابًا وحدويًا يخفي إقصاءه – كما أوضحت بيل هوكس – "حيث يتحوّل التعدد إلى شعار فارغ، بينما يُعاد إنتاج الامتياز ضمن منظومة غير مرئية". إن إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية والسياسية عبر هذه البنى الرمزية هو ما يجعل التغيير في السودان بطيئًا ومعقّدًا. فالعنصرية السلبية لا تقبل الاعتراف الذاتي، وتقاوم كل محاولة لمراجعة الامتيازات بوصفها "خطوطًا حمراء" وتوظف عتاة المتعلمين قادة الراي للاحتيال.. لهذا، فإن تفكيك هذه البنية لا يتم فقط عبر الثورة أو الدساتير، بل من خلال مساءلة الثقافة، ونقد الوعي الاجتماعي، وإعادة كتابة سردية الهوية والمواطنة من الجذور. لا مستقبل لسودان جديد إلا عبر وعي نقدي جذري يعترف بأن العدالة لا تعني المساواة المجردة، بل تصحيح الظلم التاريخي، ومشاركة الجميع في إعادة تخيل الدولة الوطنية المنصفة. سادسا: دور الأدب والفن في مقاومة العنصرية السلبية: تجارب معاصرة: في مواجهة هذا التاريخ الطويل من الهيمنة الرمزية والتمييز غير المعلن، نشأت في السودان، كما في العديد من بلدان الجنوب العالمي، حركات مقاومة ثقافية وفنية متعددة الأشكال، لعبت دورًا محوريًا في فضح هذا النظام غير المرئي من اللامساواة. وقد شكّلت الممارسة الفنية – وخاصة الفن التشكيلي، والأدب، والمسرح، والفن التشاركي – حقلًا حيويًا لمقاومة العنف الرمزي، وإعادة تعريف مفاهيم الانتماء، والمواطنة، والتعدد. كاتب هذا المقال، التشكيلي خالد كودي، يستخدم وسائط الفن البصري المفاهيمي والتشاركي لفضح التواطؤ الثقافي للنخب مع مشاريع التهميش. وقد قدّم كودي معارض فنية وأعمالًا بصرية نُفذت في مناطق محررة من قبضة المركز، خصوصًا في جبال النوبة جنوب كردفان، وفي أحياء الخرطوم قبيل الحرب، سلّطت الضوء على الذاكرة الجماعية للضحايا، وعلى دور الفن في خلق فضاءات بديلة للتعافي والحوار. أيضا انجز كودي اعمال في الولايات المتحدة والدايسبوا الافريقية. كما تناول الأدباء والمفكرين السودانيون مثل الدكتور ابكر ادم إسماعيل والأستاذ عادل شالوكا قضايا التهميش العرقي والثقافي في رواياتهم وبحوثهم بعمق، وكشفوا كيف يشتغل التحيز العنصري في الحياة اليومية وفي المؤسسات، لا بوصفه قهرًا مباشرًا، بل بوصفه بنيانًا لغويًا وثقافيًا يصعب تفكيكه. ويمكن مقاربة هذه المساهمات مع تجارب فنية عالمية مثل أعمال الفنانة الأمريكية كيري جيمس مارشال، التي استهدفت إعادة كتابة تمثيلات السود في الفن الغربي، أو أعمال الكاتبة توني موريسون التي مزجت بين الشعرية والمقاومة. كما تتقاطع هذه المسارات مع أطروحات هيربرت ريد الذي شدد على أن الفن – خصوصًا في المجتمعات غير المتجانسة – ينبغي أن يكون "أداة للتحريض الأخلاقي والتربوي، لا للزينة الثقافية".
أما في الفضاء السوداني، فقد شكل الفن التشاركي وسيلة فعالة لبناء وعي جماعي نقدي، من خلال رسم الجداريات، والمسرح التفاعلي، وورشات كتابة الذاكرة، خصوصًا في أحياء النازحين في المدن، والمخيمات المؤقتة، والمناطق التي شهدت انتهاكات. وقد وثّقت هذه المبادرات أصواتًا نسائية، وأخرى تنتمي للمجتمعات المهمشة، بعيدًا عن اللغة الرسمية التي احتكرتها النخبة. لقد كان الفن، في هذه الحالة، ليس مجرد فعل ثقافي، بل ممارسة سياسية واجتماعية، تعمل على ما سماه غرامشي بـ"الهيمنة المعاكسة" أي إنتاج خطاب بديل يواجه سردية الدولة والنخبة. ومن هنا، فإن دور الفنانين والكتاب والممارسين الثقافيين لم يكن هامشيًا، بل أساسيًا في خلق مقاومة رمزية واجتماعية متكاملة للعنصرية السلبية في السودان.
اخيرا: نحو اعتراف جذري بالعقلية العنصرية السلبية: لا يمكن تصور ولادة سودان عادل، ديمقراطي، ومتعدد، دون مواجهة صادقة مع الإرث العميق للعنصرية السلبية المتجذرة في بنية النخبة السياسية والثقافية السودانية. فكما بيّنا في هذه الورقة، فإن العنصرية السلبية لم تكن هامشًا في التاريخ السوداني الحديث، بل كانت جوهرًا مموّهًا لبناء الدولة الوطنية نفسها، حيث تم تطبيع التفاوتات العرقية والثقافية باسم الوطن، وتزييف مبدأ المواطنة باسم الوحدة وتداعيات البناء المختل للدولة تتجلي في الحرب الدائرة الان في السودان.. لقد حاول هذا المقال، من خلال مقاربة تاريخية سايكولوجية ثقافية، أن يكشف البنية المعقدة لهذا النمط من العنصرية، مستندًا إلى وثائق مفصلية مثل وثيقة كرام المواطنين (1925)، وإلى تحليلات مفكرين عالميين مثل فرانتز فانون، أنجيلا ديفيس، بيل هوكس، إدوارد سعيد، بيير بورديو، لوي ألتوسير، يوهان غالتونغ، جون رولز، هربرت ريد، وأليكساندر دي وال، وناشطين وفنانين مثل كاتب هذا المقال خالد كودي. وقد تم ربط هذه الملاحظات بسياقات دولية مشابهة، من الهند إلى الجزائر، ومن جنوب إفريقيا إلى نيجيريا، لتأكيد أن ما عاشه السودان ليس استثناءً، بل شكل من أشكال الاستمرارية البنيوية للاستعمار داخل الدولة الوطنية.
ولكن التحدي الأكبر لا يكمن في كشف هذه البنية فقط، بل في معالجة تعقيدها النفسي–الاجتماعي، خصوصًا إنكار النخبة المتكرر لكونها عنصرية. هذه الظاهرة وصفها المفكر الأمريكي بروفيسور مايكل إريك دايسون بدقة، حين قال: "أسوأ أشكال العنصرية ليست تلك التي تصرخ، بل تلك التي تصمت وهي تبتسم." فالكثير من أبناء النخبة يمارسون الامتيازات، ويؤسسون للتمييز، دون أن يدركوا أنهم عنصريون، لأنهم يعتقدون أن غياب الكراهية الصريحة يعني غياب التحيز. لكن الواقع، كما تشير أبحاث علم النفس السياسي، يقول العكس: إن التحيز غير المعترف به هو الأخطر لأنه يراكم الظلم دون مقاومة. وقد فسّر دايسون هذه الحالة باعتبارها نوعًا من "اللاوعي العنصري" الناتج عن التنشئة داخل أنظمة امتياز تجعل الشخص لا يرى نفسه مستفيدًا من القهر، بل يعتقد أنه مجرد فرد طبيعي في نظام طبيعي. ولذا فإن الاعتراف بالعنصرية السلبية يتطلب ليس فقط وعيًا فكريًا، بل شجاعة نفسية وأخلاقية لتفكيك الامتيازات الموروثة، والاعتراف باللامساواة كبنية، لا كاستثناء. ومن هنا، فإن أي مشروع للتحول في السودان لا يمكن أن ينجح إن لم يبدأ من هذا الاعتراف المؤلم. الاعتراف ليس خطابيًا، بل يجب أن يُترجم إلى إصلاحات جوهرية: - إعادة كتابة التاريخ الوطني بصوت الجماعات المهمشة، لا من موقع السلطة فقط. ولابد من الالهام ب هوارد زن. - الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية، بما في ذلك حق تقرير المصير، للجماعات التي طالما عوملت كأطراف أو توابع، تجبر الدولة علي الاعتراف عبر برامج التفضيل الإيجابي المنصفة. - تفكيك "الحظوة" كمنظومة لإعادة إنتاج الامتيازات عبر التعليم، والثقافة، والإدارة... - تبني مشروع وطني يقوم على الانصاف العدالة التاريخية، المواطنة المتساوية، والعلمانية السياسية التي تضمن التنوع وكما قال المفكر الفرنسي إدغار موران: "كل أزمة كبرى لا تُنهي التاريخ، بل تفتحه على مفترق جديد. إما أن نكرّر أخطاءنا، أو نعيد تعريف أنفسنا من جديد". إذا فشلت النخبة السودانية في مواجهة هذه الحقيقة، فإنها بوعي أو بدونه ستبقى عالقة في دوائر العنصرية السلبية، وتعيد إنتاج ما تحاول تجاوزه. وسيدفع السودان ثمنًا باهظًا، ليس فقط في وحدته، بل في جوهر وجوده كدولة تسعى إلى المساواة. لكن إن امتلكت القوى السياسية والمدنية والفنية شجاعة الاعتراف والفعل، فإن الأمل لا يزال حيًّا. لا في إعادة الدولة إلى ما كانت عليه، بل في تأسيس سودان جديد لا يخاف التعدد، بل يحتفي به. لا يتسامح مع العنصرية، بل يهزمها بالاعتراف والعدالة. فكما قالت توني موريسون: "إذا امتلكت الحكاية، فستمتلك القوة. وإذا أخبرتنا حكايتك عنك، فقد تبدأ في أن ترى العالم من موقعك الحقيقي، لا من ظلال الآخرين".
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة