في خدمة التراتب لا التغيير: الحذلقة كقناع للاستعباد في خطاب د. عبد الله علي إبراهيم تفكيك مقال: عقدة الذنب الليبرالية: "ليبرويساريون" ساعون بالفتنة بين الأعراق!
6/5/2025 خالد كودي، بوسطن
من اقوالهم: "الاستعمار لا يغادر، بل يبدّل جلده." – فرانز فانون. "أخطر ما في الظلم، أن تُطلب من ضحاياه الصمت حفاظاً على السلام." – أنجيلا ديفيس "العبودية لا تموت، بل تتحوّل. وما لم تُدفن وُجهتها، فإنها تخرج من القبر لتعيدنا إلى الجحيم." – جيمس بالدوين.
في مقاله المنشور بتاريخ 5 مايو 2025 بعنوان "عقدة الذنب الليبرالية: ليبرويساريون ساعون بالفتنة بين الأعراق" في موقع سودانيزانلاين، يعيد د. عبد الله علي إبراهيم إنتاج نهجه المعهود في تزويق الأزمة السودانية بحيل لغوية تخلط بين "تخفيف الدم" والتبخيس والازدراء، وتستبطن دفاعًا متقنًا عن تراتبيات السلطة والهوية التي شكّلت جوهر الدولة السودانية منذ لحظة استقلالها. لا ينكر الدكتور وجود الظلم، لكنه يلتف عليه؛ لا يواجه التاريخ، بل يروضه بلاغيًا؛ يحوّل ساحات المساءلة إلى منصات للإدانة العكسية. وهكذا، تنقلب الضحية إلى "مُفتن"، والمثقف المنحاز لقضايا المهمشين إلى "ليبرويساري مأزوم" إن ما يمارسه د. عبد الله لا يخرج عن ما سماه بول ريكور بـ"استراتيجيات النسيان"، حيث تُستخدم أدوات الفكر واللغة لتبرير ماضٍ لم يَمُت، بل لا يزال يتحكم بالحاضر. فبدلاً من مواجهة إرث الرق بوصفه بنية مؤسِسة للعنف الرمزي والمادي في السودان، يسعى الكاتب إلى دفن آثاره تحت غبار المفارقات البلاغية، محوّلًا كل دعوة إلى العدالة إلى "ابتزاز"، وكل مساءلة إلى "عقدة ذنب" ... وهنا يتجلى الموقف المحافظ الكلاسيكي في أكثر صوره حدة: حين يُطلب من ضحايا العبودية وتاريخ التهميش الصمت باسم "المصلحة الوطنية"، بينما تُترك بنية التفاوت على حالها، قائمة، وقادرة على امتصاص دماء الأحياء باسم "التآخي القومي" ووحدة وهمية لم تُبنَ إلا على الإنكار والإقصاء! لكن التجربة السودانية، شأنها شأن تجارب ما بعد الرق في أمريكا والبرازيل وجنوب أفريقيا، وغيرها، أثبتت أن العبودية لا تنتهي بمنع ممارستها، بل بتفكيك آثارها العميقة: الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والنفسية. وكل الحروب التي تعصف بالسودان اليوم – من دارفور إلى جبال النوبة إلى النيل الأزرق – ليست سوى تجليات متأخرة لبنية عنصرية مؤسسية (Institutional Racism) العمراني، كل شيئ في السودان. تشكّلت فوق رماد الرق، وما تزال تنبض في مفاصل الدولة والتعليم والإعلام والتخطيط وإذا كان د. عبد الله علي ابراهيم يتهكم على من يسعون لكشف هذا الجذر، فإن تاريخه الفكري، بكل أسف، يعكس تواطؤاً متواصلاً ومخجلا مع سردية المركز، التي تعتبر أي خوض في "أوجاع الرق" نوعًا من "التمزيق القومي". هذا الخطاب ليس جديدًا، بل نراه يوميًا في اليمين الأمريكي المتطرف، الذي يهاجم The 1619 Project ويمنع كتب توني موريسون وجيمس بالدوين من المكتبات العامة والمدرسية، ويُسقط تماثيل رموز العبودية فقط ليُعيد إنتاج عنصرية أكثر دهاءً في قوانين الإسكان والتعليم والتمثيل السياسي. تمامًا كما يفعل د. عبد الله، حين يصوّر أي محاولة لتأريخ العبودية في السودان على أنها "هوس ليبرالي"، ويسعى لتجريم الوعي التاريخي بوصفه فتنة. وهو بذلك يموضع نفسه – رغم فصاحته – ضمن تيار عالمي رجعي، يفضل الحفاظ على البنية القائمة بدل المساءلة، ويرى في الفصاحة حصانة ضد الاعتراف بالذنب البنيوي لكن، كما كتب ريتشارد رايت في Native Son وBlack Boy "الأنظمة تخلق المجرم، ثم تدينه، تصنع العبودية، ثم تُجرّم من يتحدث عنها" وفي هذا السياق، لا يكون مقال د. عبد الله استثناءً أو وجهة نظر ضمن نقاش تعددي، بل إعادة إنتاج لخطاب التبرير، والمشاركة الفكرية في إدامة عنف الدولة المركزية. هذا الرد، إذن، لا يسعى فقط إلى تفنيد مقال متهافت، بل إلى إعادة ضبط النقاش على الأسئلة التي يهرب منها الجميع: من يملك أن يُسمي الذاكرة "فتنة"؟ من يعفو عن التاريخ قبل أن يعترف به؟ ومن قال إن الفصاحة تبرئ من التواطؤ؟ في زمن الدم، لا تنفع الحذلقة. وفي حضرة العبودية، لا تكفي النكتة! وكما قال فرانز فانون: "الصمت في وجه الجريمة، مشاركة فيها"، و قال جيمس بالدوين: "العبودية لا تموت، بل تتحوّل. وما لم تُدفن وُجهتها، فإنها تخرج من القبر لتعيدنا إلى الجحيم" ود. عبد الله، بكل أسف، لم يشأ أن يكون شاهداً على هذا الجحيم، بل اختار أن يُجمّله بلغةٍ فاتنة وملتوية، ويؤجّل الاعتراف به إلى أجلٍ غير مسمّى، ولنناقشه وما يمثل:
أولاً: من الرق إلى التفاوت البنيوي: جدل الاستمرارية التاريخية لقد أوضحت المفكرة النسوية الأمريكية بيل هوكس أن "الهيمنة لا تكتفي بأن تستعبد الجسد، بل تعمل على شرعنة السُلطة على العقل والخيال أيضاً"، وهو ما نراه جلياً في حالة السودان، حيث لم يتم تفكيك إرث الرق تاريخيًا، بل جرى تحويله إلى نظام اجتماعي، جهوي، طبقي وعرقي مقنّن، تماهت فيه السلطة بالهوية، وجرى تقعيد الفوارق الجغرافية والثقافية كمبررات للامتياز. ما يؤكده المفكر مايكل إريك دايسون في تحليله للمجتمع الأمريكي من حيث استمرارية الرق كممارسة بنيوية في المؤسسات الحديثة، ينطبق حرفياً على الحالة السودانية: إن الرق لا ينتهي عندما يتوقف، بل يظل حيًا من خلال أشكاله المجازية في الاقتصاد والتعليم والسياسة والإعلام. فكيف يمكن لنا، ونحن نرى أن غالبية سكان مناطق الهامش (جبال النوبة، النيل الأزرق، دارفور) لا يزالون يفتقرون لأبسط الخدمات الأساسية، وأن نزعم بأن الرق انتهى؟!
يقول جيمس بالدوين: "ليس من واجب الضحية أن تريح ضمير الجلاد." وهذه العبارة تكتسب راهنيتها القصوى حين ننظر إلى خطاب د. عبد الله علي إبراهيم، الذي يطلب من ضحايا البنية التاريخية للعبودية – من المهمشين والمقصيين واحفاد المستعبدين سابقًا – أن يُحجموا عن قول الحقيقة، وأن يهادنوا في الخطاب، وأن يُخففوا من حدة النقد "حفاظًا على التماسك القومي"، أو درءًا لشبح "الفتنة العرقية". لكنه بذلك يعكس بالضبط ما وصفه سيمون فايل بـ"انقلاب العلاقة الأخلاقية" حين يُطلب من المظلوم الصمت لا لشيء، سوى لأن صوته يفضح حقيقةً لا يرغب المجتمع في سماعها. إن توصيف الدكتور لما يسميه "عقدة الذنب الليبرالية" عند من يكتبون عن الرق وعلاقاته، إنما هو محاولة كلاسيكية لما سماه سلافوي جيجك "الإنكار الهيكلي" Structural Disavowal أي أن يعرف الإنسان الحقيقة، لكنه يصوغ خطابه كما لو أنها غير موجودة. فيرفض د. عبد الله، من موقعه الأكاديمي المرموق، أن يُحمّل مؤسسة الدولة السودانية مسؤولية بنائها على إرث الرق، أو أن يعترف بأن العبودية في السودان لم تكن مجرد لحظة تاريخية، بل بنية إنتاج مستمرة للتمييز، تمأسست في التعليم، والإدارة، والسياسة، والخطاب الثقافي، وحتى في توزيع الحظوة والكرامة بين السودانيين أنفسهم. فريدريك دوغلاس، المسترق الذي تحرر، وأحد أبرز المفكرين السود في القرن التاسع عشر، كتب: "الجلاد لا يتوب حين يُغفر له، بل حين يُواجه بجريمته." وهذا هو جوهر ما يتجنبه د. عبد الله: إنه يراوغ أمام الحقيقة الأخلاقية لمؤسسة الرق، ويحول المساءلة إلى تلاعب لفظي، وكأن المظلوم مطالب أولاً بأن يُثبت براءته من الحقد، قبل أن يُسمع صوته! ده كلام ده يادكتور؟ المفارقة أن هذا الموقف يعكس ما حذّر منه إيمانويل ليفيناس حين قال إن "السياسة التي لا تُبنى على مسؤولية تجاه الآخر، هي شكل آخر من أشكال العنف". ود. عبد الله، حين يحوّل ضحايا العبودية التاريخية إلى "مبتزين أخلاقيين"، فإنه يتورط، عن وعي أو غفلة، في إعادة إنتاج هذا العنف، عبر تبرئة المركز واتهام الهامش، وعبر تصوير الذاكرة كعبء لا كحق إن ما يسمى بـ"عقدة الذنب" في الخطاب النقدي ليست حالة شعورية مَرَضية كما يوحي بها د. عبد الله، بل هي – كما يوضح بول ريكور وكارل ياسبرز – شكل من أشكال الاعتراف التاريخي، الضروري لتأسيس مجتمع قائم على العدالة الأخلاقية، وليس على الإنكار. فالاعتراف ليس ضعفًا، بل شرطًا للكرامة، وللانتقال من التاريخ بوصفه جريمة صامتة إلى التاريخ بوصفه مسؤولية حيّة. إن د. عبد الله، حين يسخر من المرافعات الأخلاقية والسياسية ضد موروث الرق، لا يزعزع فقط موقع الضحية، بل يحرّف موقع المثقف نفسه. فالمثقف، كما كتب إدوارد سعيد، "لا يُقاس ببلاغته، بل بموقعه الأخلاقي من السلطة." وموقع الدكتور، في هذا السياق، ليس إلى جانب الحقائق المُرّة، بل إلى جانب خطابٍ مصقولٍ يهدف إلى إعادة تغليف القبح بلغة فصيحة ومنمقة. في السودان، لا تزال آثار الرق تمارس حضورها العنيف في مجازر دارفور، وجبال النوبة والفونج الجديد، في التمييز داخل مؤسسات الدولة، في الإقصاء المتكرر لأبناء الهامش من القيادة، في تهميش اللغات والثقافات غير العربية وغير الاسلامية، وفي الازدراء الرمزي الذي يتخلل الحياة اليومية. فهل يُعقل، بعد كل هذا، أن يُطالب من يُعرّي هذه البنية بالصمت؟ هل يُعقل أن يتحول السائل عن العدالة إلى "مفتن"، والمُطالب بالاعتراف إلى "ليبرالي مأزوم"؟ بل الأجدى أن نُعيد قلب السؤال كما طرحه بالدوين: "من الذي يجب أن يشعر بالذنب؟ الضحية أم من صنع المؤسسة التي استعبدته ثم ورث مزاياها إلى يومنا هذا"؟ فيادكتور استيقظ! إن نقد مؤسسة الرق ليس عُقدة، بل مسؤولية. وإدانة السكوت عنها ليست فتنة، بل بداية تحرر. أما الاستمرار في حمايتها بلغة أنيقة، فهو أسوأ أشكال التواطؤ.
ثانيًا: الالتفاف البلاغي كمنهج للهروب من المسؤولية يتجلى أسلوب د. عبد الله علي إبراهيم في التهرب من الأسئلة الجذرية عبر ما يمكن تسميته بـ"الحذلقة اللغوية"، وهي توظيف كثيف للغة كوسيلة للاحتيال دون أن يقدم بدائل للتحليل أو مساءلة واضحة للبنية الاجتماعية–السياسية التي صنعت المأساة السودانية. عنوان المقالإن ردّ د. عبد الله علي إبراهيم على مداخلة د. وجدي كامل بشأن واقعة "الصبي والبدين" وهي واقعة انتشرت في الاسافير، يكشف بوضوح عن ميل منهجي للهروب من جوهر العلاقات التاريخية بين المركز والهامش، والعنصرية البنيوية المتجذرة في بنية الثقافة السودانية. فبدلاً من أن يرى في هذه الواقعة مشهداً حياً لتجلي العلاقات السيادية بين من ورثوا امتيازات السيد ومن لا يزالون يُعاملون كأحفاد العبيد، ينشغل د. عبد الله بتفكيك أسلوبي وبلاغي لتحليل وجدي، في ما يشبه محاولة نفي رمزية الحدث ذاته، والتقليل من عمقه الاجتماعي والتاريخي، متعمداً التشكيك في التأويلات دون أن يجرؤ على مواجهة البنية العنصرية الكامنة خلف الحدث. وهذا الموقف يُذكّرنا بما طرحه ريتشارد رايت في روايته Native Son حين صور كيف أن تصرفات "بيغر توماس" لم تكن مجرد أفعال فردية، بل نتائج حتمية لبيئة عنصرية خانقة تحكمها القوالب الجاهزة والعنف البنيوي. كما يوضح في روايته الثانية (الولد الأسود) Black Boy أن الهروب من المواجهة المباشرة مع البنى القمعية لا يفضي إلى الفهم أو الحل، بل يُفضي إلى التواطؤ معها، تمامًا كما يفعل د. عبد الله حين يحوّل واقعة التنمر إلى فرصة للمماحكة البلاغية، متجاهلاً أن ما جرى ليس حادثاً معزولاً، بل هو، كما كتب رايت، "تعبير عن صرخة تاريخية مكبوتة تتفجر في وجه ثقافة تعيش على إنكارها للآخر." رايت، في نصوصه، يصرّ على أن "الظلم لا يُلغى إذا تجاهلناه، بل يتكاثر في ظل الصمت والتبرير"، وهي ذات الفكرة التي تتبدّى في موقف د. عبد الله، الذي يختار أن يسخر من التأويلات الناقدة للعنصرية، لا ليفندها بمنهجية علمية، بل ليربك القرّاء ويحول النقاش عن مضمونه الأخلاقي والسياسي إلى مناورة وحذلقة لغوية. وهكذا، يغدو نقده لوجدي ليس موقفًا معرفيًا، بل مثالًا على إصرار بعض النخب على الدفاع عن امتيازاتها التاريخية باسم "الرصانة"، بينما الحقيقة تظل تصرخ في وجوهنا كما صرخ رايت: "كان جسدي في الجنوب، لكن روحي تنزف في مكان آخر، حيث لا يُعامل الإنسان كمجرد ظلّ لذاكرة الرق".
ثالثًا: من نقد النخاسة إلى نقد الدولة: تواطؤ النخب السودانية مع النموذج اليميني في إنكار الإرث العبودي: يحاول د. عبد الله علي إبراهيم أن يوحي بأن نقد إرث الرق وتفكيك آثاره ليس سوى تعبير عن “خطة بائسة للتحلل من المشروع الوطني”، وكأن مساءلة التاريخ العنصري الذي صاغ شكل الدولة السودانية الحديثة هو نوع من الابتزاز الأخلاقي أو "اللطم الجماعي"، كما قد يسميه بعض المحافظين. لكنه يتغافل – عمداً أو جهلاً – عن حقيقة أن من خرق العقد الوطني بالفعل هي النخب التي بنت سلطتها ومواقعها الاجتماعية على تراكمات العبودية، وكرّست نظاماً اجتماعياً–اقتصادياً فصل ملايين السودانيين على أسس إثنية وطبقية عن الحق في الأرض، والهوية، والتعليم، والتمثيل السياسي. هذه القراءة الانتقاصية لإرث الرق ومآلاته ليست حصرية على بعض النخب السودانية. بل نجد لها نظائر واضحة في الفكر اليميني المحافظ في أمريكا وأوروبا. فكتّاب مثل Shelby Steele الولايات المتحدة و Niall Ferguson في بريطانيا، يجادلون بأن التركيز على العبودية ومخلفاتها في النقاش العام ما هو إلا عائق أمام "التقدم" و"الوحدة الوطنية"، وأن سياسات التفضيل الإيجابي (affirmative action) أو مساءلة التاريخ الاستعماري ليست سوى إفراط في الحساسية أو شعور بالذنب يعيق “الحلم الوطني”. وهي حجج تتماهى تماماً مع منطق د. عبد الله، الذي يرى في نقد موروث الرق نوعاً من جلد الذات الليبرالي وليس مساءلة بنيوية للسلطة لكن هذا المنطق المحافظ ثبت فشله من الناحية الأخلاقية والتاريخية. في الولايات المتحدة، تكرّست مؤخرًا موجة يمينية عدائية ضد تدريس تاريخ الرق، حيث تُسحب كتب من المكتبات العامة والمدارس، ويُمنع تداول أعمال أدبية وفكرية عظيمة مثل The 1619 Project التي سعت لإعادة تأريخ نشأة الأمة الأمريكية من زاوية تجارة الرقيق. وحُظر تدريس أفكار كريستوفر لوكس وباولو فريري، وهوارد زن، بل وتُمنع نصوص جيمس بالدوين وتوني موريسون في عدد من الولايات! وقد لخصت المؤرخة الأمريكية روبين دي أنجيلو هذا الهجوم بقولها: "السلطة البيضاء تدرك أن الاعتراف بالتاريخ يعني تقويض شرعيتها، لذا تلجأ إلى الصمت كأداة للتبرير". وفي ذات السياق، كتب هاورد زن أن "التاريخ الذي لا يُروى، هو تاريخ يُعاد إنتاجه بوحشية"، مشيراً إلى أن إنكار الماضي هو شكل من أشكال العنف الرمزي المأسسي. وفي السنوات الأخيرة، تم إنزال عشرات التماثيل التي تمجّد رموز العبودية والكونفدرالية في أمريكا، مثل تمثال الجنرال روبرت إي. لي، في مواجهة معركة شرسة خاضها اليمين المتطرف من أجل الإبقاء عليها بوصفها "تراثاً وطنياً". وهو ما يعكس بوضوح أن الصراع على الذاكرة ليس مجرد خلاف أكاديمي، بل هو معركة على هوية الحاضر وإمكانية العدالة في المستقبل- وسنعود لهذا في سياقات اخري. د. عبد الله، حين يهاجم المفكرين الذين واجهوا تاريخ الرق مثل الراحلين الأستاذ محمد إبراهيم نقد و الدكتور منصور خالد، ويتهمهم بأنهم أسرى لما يسميه “عقدة الذنب الليبرالية”، لا يفعل سوى ترديد صدى الأصوات التي حاولت – وما تزال – الدفاع عن "هيبة الدولة" القائمة على الامتياز، دون مساءلة بنيتها الأخلاقية أو جذورها الاسترقاقية. وهو بذلك ينتمي، وإن بغير تصريح، إلى ذات المدرسة الفكرية التي ترى في المطالبة بالمساواة تهديدًا لـ"النظام العام"، وتُجنّب أصحاب الامتياز من مسؤولية إعادة البناء. أما الحقيقة، فهي ما قاله جيمس بالدوين: "حين ينكر المجتمع ما فعله في الماضي، فإنه يحكم على نفسه بتكراره. لا يمكنك تحرير من لا تعترف بأنك استعبدته أولاً". إن ما يجري في دارفور، جبال النوبة، والفونج الجديد ليس رد فعل "عاطفي" كما يوحي خطاب د. عبد الله، بل هو انفجار تاريخي ضد منظومة لم تراجع نفسها يومًا، ولم تنكسر تحت ثقل دماء العبودية. إنه نداء مستمر لتفكيك عنف الدولة لا صون وحدتها الزائفة، ومحاسبة النخب لا حمايتها ببلاغة مراوغة.
أنجيلا ديفس كانت واضحة حين قالت: "التحرر لا يتحقق بطمس الذاكرة، بل بفتح الجراح وتأملها بصدق". وبهذا المعنى، فإن مشروع نقد الرق ليس شكوى ولا تذمّرًا، بل هو لبّ مشروع بناء وطن جديد على أسس العدالة والاعتراف والتمثيل المتكافئ. رابعًا: الدرس الأمريكي والامتداد السوداني في الولايات المتحدة، ما زالت تداعيات الرق تظهر في كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. رغم وجود قوانين المساواة، فإن السود لا يزالون يعانون من تمييز منهجي. وقد أشار المؤرخ هوارد زن في كتابه الشهير A People's History of the United States " إلى أن "إلغاء العبودية لم يكن نهاية الظلم، بل تحوله إلى أشكال أكثر خفاء وتعقيدًا وعليه، فإن مقارنة التجربة السودانية بنظيرتها الأمريكية تبيّن أن "التحرر من الرق لا يعني نهاية الرق"، وأن المجتمعات التي لا تعترف بتاريخها القائم على الظلم، تتحول إلى كيانات مفخخة تكرر العنف كلما أتيح لها.
اخيرا: في تفكيك الحذلقة والاحتيال، وتوبيخ العجز المعرفي في وجه الكارثة: ما يطرحه د. عبد الله علي إبراهيم في مقاله الأخير لا يمكن تصنيفه ضمن الفعل النقدي الجاد، بل هو أقرب إلى مناورة فكرية تهدف إلى تبرئة بنية السلطة المركزية من جرائمها التاريخية والمستمرة وتقديم خطاب لغوي منمق يتخفى خلف البلاغة لتفادي مواجهة الأسئلة الجذرية، ومواجهة واقع السودان اليوم. إن ما يقوم به الدكتور ليس إلا إنكارًا مراوغًا لذاكرة العبودية، وتحايلاً معرفيًا لحماية تراتبيات اجتماعية–عرقية ودينية هي ذاتها التي أنتجت، ولاتزال تنتج، التهميش، والعنف، والانهيار الوطني الشامل، والواقع امام الجميع. إن إصرار د. عبد الله على اختزال تفكيك إرث الرق إلى “عقدة ذنب ليبرالية”، وسعيه لتجريم كل من تجرأ على مساءلة التاريخ الاسترقاقي للدولة السودانية، يكشفان عن قصور معرفي واخلاقي وافتقار إلى الوعي التاريخي المتقاطع والمركب الذي يتطلبه السياق السوداني الكارثي. وهو بهذا يكرّس خطابًا محافظًا في ثوب نقدي، يرفض المساءلة، ويُجمِّل الاستلاب البنيوي تحت لافتة "الوحدة الوطنية"، وكأن الوطن يُبنى بطمس الحقيقة، لا بمواجهتها. إن التناقض الأخلاقي والمعرفي الذي ينطوي عليه خطاب د. عبد الله يبلغ ذروته في لحظةٍ تنهار فيها الدولة السودانية تحت وطأة الحروب، ويُهجَّر ملايين المواطنين من ديارهم، وتُرتكب المجازر بحقهم، ويُعاد إنتاج السلوكيات الطبقية والعنصرية التي تُعيدنا مباشرة إلى منطق السيادة العرقية المتوارث عن مؤسسة الرق. ورغم ذلك، لا يزال الدكتور يعالج كل ذلك بلغة مراوغة، تعفي النخب من مسؤوليتها، وتسوغ استمرار البنية ذاتها التي قادت البلاد إلى الهاوية. ما يُمارسه الدكتور هو ما سماه إدوارد سعيد ذات مرة بـ"المثقف الذي ينوب عن السلطة لا عن الناس"، وهو ما يجعل من مقاله شاهدًا على الإفلاس الأخلاقي للمثقف حين يتواطأ مع بنية الخراب بدلاً من فضحها. لقد قال جيمس بالدوين إن "أخطر الكذبات هي تلك التي نقولها لأنفسنا لنواصل العيش كما نحن". والدكتور، بكل أسف، يمارس هذه الكذبة علنًا، فيما الدماء لم تجف، والمهمشون لم يجدوا أرضًا ولا وطنًا يعترف بإنسانيتهم.
إن الطريق إلى الخلاص لا يمر عبر إعادة إنتاج خطاب النخب المهزومة، بل يبدأ من الاعتراف الجذري بالبنية الاثنية، الاجتماعية والطبقية للدولة السودانية، وبالمسؤولية الأخلاقية والسياسية للذين دافعوا عنها طيلة العقود الماضية. وإن مهمة المثقف الحقيقي، في زمن الكارثة، ليست تبرير الخراب باسم الوحدة، بل اجتراح لغة جديدة للعدالة التاريخية، تعيد بناء الوطن على أسس من المساواة، لا الامتياز، ومن الاعتراف، لا الإنكار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة