الأستاذ مهدي داؤود، عن فخّ "الحياد" ومقاومة اللاوعي للتغيير الجذري:
4/17/2024 خالد كودي، بوسطن
يسعدني التبادل مع الأستاذ مهدي داوود الخليفة، غير أن هذا الرد لا يُخاطب شخصه وحده، بل يعالج منظومة أفكار ورؤى يتبنّاها عدد من المشاركين في مؤتمر أيوا، وغيره من الفضاءات ممن يشتركون في تصوّر محافظ تجاه التغيير، ويعيدون إنتاج خطاب النخب القديمة، تحت عناوين مثل "الشرعية"، "الحياد"، و"التوافق" وما اليه. هذه المداخلة وما سبقها إذًا، ليست حوارًا بين فردين، بل نقدًا لخطاب كامل يسعى لتأجيل الحقوق وتدوير مراكز القوة القديمة، بدل مواجهتها.
الان الي الحوار ردا علي مداخلته الثانية المنشرة في الوسائط وموقع صحيفة مداميك:
حين يتحدّث الأستاذ مهدي داوود الخليفة عن "ملتقى أيوا" بوصفه منصة مدنية للحوار، فإنه يعيد إنتاج إحدى أكثر الأساطير السياسية احتيالا وخطورة في التاريخ السوداني الحديث: وهم الحياد. ذلك أن ما صدر عن المؤتمر – سواء من وثائق أو ربما بنيت عليها مواقف – لا يعكس حيادًا بقدر ما يُكرّس مسار "الهبوط الناعم" الذي كان السبب المباشر في إفراغ ثورة ديسمبر من مضامينها التحررية. إن ما يُطرح بوصفه حيادًا هنا، ليس إلا تواطؤًا ناعمًا مع البنية العميقة للدولة السودانية القديمة، تلك البنية التي تعيش في عقل النخب السياسية كما في لاوعيها الجمعي. هذا "الحياد"، في سياق دولة ما بعد الاستعمار، لا يعني الوقوف في منتصف المسافة بين الضحية والجلاد، بل يعني إرجاء العدالة لصالح التوازن، والتعايش مع الباطل خوفًا من كلفة التغيير وكما تقول أليس ميلر في دراساتها عن سيكولوجيا الطاعة: "الذهن الذي نشأ في ظل سلطة استعلائية يميل إلى خلق معنى زائف للحياد، لأنه يخاف من أن يقطع مع مصدر سلطته الأصلية". ولهذا نجد أن مؤتمر "أيوا" وغيره، وإن زعم الحياد، خرج بصيغة توافقية رمادية، تتجاهل بالكامل تحالف "تأسيس"، وتراوغ في مواجهة القضايا التأسيسية مثل العلمانية، الحق في تقرير المصير، تفكيك الجيش، والعدالة التاريخية. هذا ليس حيادًا... بل انحيازٌ خجولٌ للماضي، تُغلّفه اللغة الناعمة.
ثانيًا: الشرعية المنقوصة... كيف تصوغ النخبة حججها من الخوف؟ ينطلق الأستاذ مهدي كغيره الكثير من النخب السياسية من فرضية مفادها أن تحالف "تأسيس" يفتقر إلى "الشرعية"، لأنه – وفق رأيه/هم – تحالف مسلح، منغلق، ويفرض الأمر الواقع دون "إجماع شعبي". وهذه فرضية – لا تستند فقط إلى مغالطة سياسية – بل إلى ما يسمّيه علم النفس السياسي بـ"آليات الدفاع النخبوية"، أي ميل النخبة إلى استعادة ما يُعرف لديها حتى وإن ثبت فشله، خوفًا من المجهول أو من فقدان السيطرة. وهنا يظهر أثر "اللاوعي السياسي" الذي يعمل – كما يشرح بيير بورديو – على حماية البنية التي شكّلت الفرد، حتى لو كانت تلك البنية ظالمة أو متآكلة. فالنخبة المركزية، مثلها مثل الطبقات المهيمنة، لا تعارض المشاريع الجديدة بسبب ضعفها الفكري فحسب، بل لأنها مُدربة على رفض كل ما يهدد موقعها الرمزي. من الذي منح تلك النخب – من الإسلاميين إلى الشيوعيين، وكل ما بينهما – حق قيادة الدولة منذ الاستقلال؟ هل كان ذلك عبر شرعية تمثيل، أم من خلال تقاليد نخبوية متوارثة؟ ولماذا يكون لطرف مثل الحركة الشعبية – الذي يحكم أراضي تعادل مساحة رواندا وبروندي، ويقدم نموذجًا إداريًا وخدميًا – شرعية أقل من أحزاب لا تستطيع اليوم حماية تظاهرة واحدة في شوارع الخرطوم؟ إن إعادة تعريف "الشرعية" يجب أن تنطلق من قدرة الفاعل السياسي على تحقيق الاستقرار، تقديم بديل، وامتلاك رؤية لتأسيس دولة جديدة، لا من عدد المقاعد التي يشغلها في نادٍ سياسي فقد شرعيته الشعبية.
ثالثًا: تحالف "تأسيس" كتهديد لا شعوري لميراث الهيمنة: تحالف "تأسيس"، بما يطرحه من مشروع متكامل، ليس مجرد تحالف سياسي، بل هو تهديد مباشر لما يسمّيه علماء الاجتماع السياسي بـ"بنية الهيمنة المعنوية". إنه لا يهاجم فقط مراكز القوى، بل يفكك اللغة التي بررت وجودها لعقود: الدولة الوطنية، الوحدة الزائفة، الجيش "القومي"، والمركز بوصفه المعبر الوحيد إلى الدولة. ولهذا، فإن الانفعالات القوية التي يثيرها التحالف ليست سياسية فحسب، بل سيكولوجية. لأنه، بكل بساطة، يكشف زيف الشرعيات القديمة، ويطالب المركز بأن يخلع عن نفسه عباءة القيادة الأبدية. وإذا كان الأستاذ مهدي يرى أن تحالف "تأسيس" يفتقر للشرعية، فربما لأن معايير الشرعية لديه لم تتجدد. فهو، مثل كثيرين، يقيس مشروع الدولة الجديدة بأدوات الدولة القديمة. وهذا ليس موقفًا واعيًا دائمًا، بل هو، في أغلب الأحيان، تعبير عن صدمة لا واعية من تغيّر قواعد اللعبة! وكما كتب أريك فروم: "الإنسان يهرب من الحرية، إذا ما هددت أمنه النفسي، حتى لو كان هذا الأمن مبنيًا على الاستبداد" وتحالف "تأسيس"، بكل ما يحمله من جرأة، لا يهدد السلطة فقط، بل يهدد تصوّرًا عميقًا ومركّبًا عن ما تعنيه الدولة في وعي النخبة السودانية.
وهنا يتضح أن الأستاذ مهدي يُروّج لوعي ملتبس بالشرعية، يستند إلى مقاييس كلاسيكية فقدت صلاحيتها في السياق السوداني الراهن كحال الكثيرين من النخب الناشطة في هذا الوقت. حين يحصر الشرعية في "الإجماع الشعبي"، فإنه يقع في مغالطة هيغلية قديمة: فالواقع – كما كتب هيغل – لا ينتظر الإجماع، بل يخلقه. أما المشروعية الحقيقية، فهي ما ينبثق عن توازنات جديدة فرضتها قوى ناهضت الاستعلاء ودفعت ثمنًا باهظًا لتغيير المعادلة. وإذا كان الأستاذ مهدي يشكّك في شرعية تحالف "تأسيس" لأنه تحالف مسلّح، فإن ما يغفله هو أن حكومة بورتسودان المسلحة- نفسها – التي يتعامل معها بخطاب الحياد – لا تملك لا تفويضًا شعبيًا، ولا مشروعية قانونية، ولا سندًا سياسيًا. كيف يمكن لمن لا يعترف بشرعية تحالف واسع وقّعت عليه حركات قاتلت لعقود ضد المركز، ورفعت مطالب ظلّ المركز نفسه يتهرب منها، أن يطالبنا باحترام "توازن" لا وجود له سوى في أوهام النخبة؟ الحديث عن "الشرعية" كما يطرحه الأستاذ مهدي وغيره كثيرين، هو حديثٌ عن الماضي، عن منظومة انتهت بانهيار الدولة المركزية وجيشها وتصدّع بنيانها الرمزي. أما حديث "تأسيس"، فهو حديثٌ عن المستقبل، عن إعادة بناء السودان من نقطة الصفر، على أسس المواطنة، والمساواة، والاعتراف بالهامش بوصفه شريكًا لا تابعًا. كتب جان بول سارتر: ."الثورات لا تطلب الإذن، ولا تنتظر الرضا. إنها تصنع الواقع حين يُنكره الجميع" وتحالف "تأسيس"، بكل ما فيه من تحديات وتعقيدات، هو أول مشروع سياسي منذ الاستقلال يجرؤ على إعادة تعريف العقد الاجتماعي السوداني من جذوره، إما أن نلتحق به، أو نواصل تكرار نفس الخراب.
رابعا: لا تُستفتى العدالة: عن خدعة التوافق ومؤتمرات الحسم التي لا تنتهي: حين يطرح الأستاذ مهدي داوود الخليفة، وغيره من ممثلي النخبة السودانية، ضرورة "الاحتكام إلى مؤتمر دستوري جامع" لحسم قضايا مثل العلمانية وحق تقرير المصير، فإنهم لا يطرحون رؤية ديمقراطية، بل يستعيدون بوعي أو دون وعي منطق الهيمنة التاريخية: أي أن "الأغلبية" – التي ظلّت تحكم وتحتكر موارد الدولة وشرعيتها منذ الاستقلال – هي من تملك حق تقرير مصير بقية الشعوب داخل السودان. هذه ليست دعوة للتوافق، بل لإعادة صياغة علاقات القوة القديمة، حيث تتحكم النخبة المركزية – السياسية والدينية – في الحد الأدنى لحقوق الآخرين، من خلال آليات تدّعي الشمول ولكنها مصمَّمة لضمان الهيمنة. أولًا: الحقوق الأساسية ليست محل تصويت: من منظور القانون الدولي والفقه الدستوري المقارن، هناك ما يُسمى بـالحقوق الفوق–دستورية (Supra-Constitutional Rights) وهي الحقوق التي لا تخضع للتصويت، ولا يجوز لأي أغلبية – مهما بلغت – أن تصادرها أو تؤجلها. من بين هذه الحقوق - الحق في المساواة أمام القانون (العلمانية في السياق السوداني): أي حياد الدولة تجاه الأديان. هذا مبدأ فوق دستوري في غالبية الديمقراطيات، لأنه يمثل الضمانة الأساسية لمفهوم "المواطنة المتساوية" - الحق في تقرير المصير: منصوص عليه في المادة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، كحق جماعي غير قابل للتصرف، لا تحدده الدول القومية، بل تعترف به فقط. - العدالة والكرامة الإنسانية: تمثل حجر الزاوية في جميع مواثيق الأمم المتحدة، وهي غير قابلة للتأجيل أو المصادرة باسم الاستقرار أو الإجماع الوطني. بمعنى آخر: لا يُمكن أن يُطلب من الشعوب المهمشة أن تنتظر "موافقة" أغلبية ظالمة تاريخيًا، لكي تحصل على حقها في المساواة، والكرامة، والمشاركة العادلة في السلطة والثروة. ثانيًا: الدروس الأمريكية – من لينكولن إلى مارتن لوثر كينغ: الولايات المتحدة، التي يعيش فيها كثير من أفراد النخب السودانية اليوم، لم تُسقط العبودية فيها عبر استفتاء شعبي، بل عبر إعلان تحرير العبيد الفوقي. (Emancipation Proclamation) الذي أصدره الرئيس أبراهام لينكولن عام 1863 كقرار تنفيذي فوقي، مستندًا إلى سلطاته الدستورية بوصفه قائدًا عامًا أثناء الحرب الأهلية الامريكية. وفي القرن العشرين، لم يتم الحصول على حق التصويت للسود من خلال التوافق مع الولايات الجنوبية العنصرية، بل بقرارٍ سياسي شجاع تجسّد في قانون الحقوق المدنية لعام 1964 وقانون حق التصويت لعام 1965، وكلاهما تم تمريره في مناخ من الانقسام العرقي العميق، ورفض الأغلبية البيضاء في الجنوب. حين كان يُقال لمارتن لوثر كينغ: "انتظر، سيأتي التغيير بعد المؤتمر الوطني، أو بعد انتخابات قادمة"، كان يرد دائمًا "العدالة المؤجلة هي عدالة مرفوضة" وهذا هو جوهر الموقف الثوري الذي لا ينتظر، بل يصنع الإجماع من موقع الضحية، لا من موقع الوريث. ثالثًا: لماذا تتهرب النخب من حسم الحقوق الأساسية؟ لأنها تعرف تمامًا أن "المؤتمر الدستوري" الذي تدعو إليه – كما حدث منذ مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، ومرورًا بـ"الحوار الوطني" وحوار "الوثبة"، ووصولًا إلى تسويات ما بعد ديسمبر – لم يكن يومًا منصة لتحرير الحقوق، بل لإعادة هندسة السيطرة. إنّ هذا النوع من المؤتمرات يُصمم دومًا لضمان بقاء المركز في مركزه. لذا ترفض هذه النخب حسم القضايا التأسيسية الآن، لأنها تعرف أن ميزان القوة الحقيقي لم يعد في صالحها، وأن مشروع "تأسيس" يعكس لحظة فارقة، ليس فقط عسكريًا أو سياسيًا، بل فكريًا.
خامسا: الحقوق لا تُمنح... بل تُنتزع: قلنا انه من أكثر ما يثير القلق في خطاب الأستاذ مهدي داوود الخليفة ومؤتمر "أيوا" هو افتراضهم أن قضايا جوهرية مثل العلمانية، وحق تقرير المصير، والعدالة التاريخية، هي مجرد "مواضيع خلافية" يُفترض تأجيلها إلى "مؤتمر دستوري جامع"، وكأن هذه القضايا لا تتعلّق بأسس الكرامة الإنسانية، بل بمسائل فنية قابلة للتفاوض والإرجاء. وهنا يكمن جوهر الخلل: تجريد الحقوق الأساسية من طابعها الفوق–دستوري، وتحويلها إلى بنود تفاوضية، هو ضرب من العنف الرمزي الذي يعيد إنتاج البنية المركزية المهيمِنة، ويؤسس عمليًا لما يسميه الباحثون في القانون السياسي بـ"ديكتاتورية الأغلبية". فبحسب المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، حق تقرير المصير ليس مطروحًا للتصويت، بل هو حق أصيل غير قابل للتصرف، تعترف به الدولة ولا تمنحه. وبالمثل، فإن فصل الدين عن الدولة – أي العلمانية – هو ليس خيارًا أيديولوجيًا، بل شرط قانوني لحماية التعدد الديني وضمان المساواة أمام مؤسسات الدولة. من هذا المنظور، يصبح الحديث عن "إجماع وطني" لتقرير هذه القضايا إجراءً مراوغًا، يعلم أصحابه – كما يعلم الأستاذ مهدي – أن موازين القوى في السودان لطالما كانت منحازة للنخب المركزية، وبالتالي فإن الإجماع المقترح ليس سوى وسيلة لضمان استمرار امتيازهم القديم في تحديد من يستحق الحقوق، ومن عليه الانتظار. هذه ليست فرضية نظرية، بل واقع مكرر في التاريخ الحديث: - في سريلانكا، حين رفضت الأغلبية السنهالية الاعتراف بالتعددية اللغوية والدينية، واعتبرت أن التسويات يجب أن تتم فقط داخل البرلمان، انفجرت الحرب الأهلية. - في نيبال، لم يكن الانتقال الديمقراطي ممكنًا إلا حين تم إدراج الحقوق الأساسية كضمانات فوق دستورية، بما فيها المساواة بين الطوائف واللغات والمناطق، دون انتظار "موافقة الأغلبية." - وفي جنوب أفريقيا، لم تكن الحقوق السياسية للسود محل تفاوض، بل فُرضت كأمر واقع في لحظة تاريخية حرجة، بصياغة عقد اجتماعي جديد يبدأ من الهامش لا المركز، ومن الضحية لا الجلاد. كتب المفكر التونسي عبد الجليل بوقرّة: ."لا يوجد شيء أكثر عنفًا من أن تطلب من المهمّشين أن يقنعوا المتفوّقين بالتنازل عن امتيازاتهم، ثم تسمي ذلك ديمقراطية" وهذا بالضبط ما تفعله دعوة الأستاذ مهدي وغيره إلى "مؤتمر دستوري جامع"، يُناقش فيه منطق الاستعلاء نفسه، بأدوات بيروقراطية مألوفة. إن تحالف "تأسيس"، حين يطرح مبادئ مثل العلمانية، وحق تقرير المصير، والعدالة التاريخية، كقضايا غير قابلة للتفاوض، فهو لا ينزلق إلى "الإقصاء"، بل يضع ما يسميه الفيلسوف جاك دريدا بـ"الشرط التأسيسي لأي عدالة": أن تُعلن الحقيقة من موقع المهمّش، لا من موقع السلطة. عُمومًا، إن التهرّب من مواجهة جذور الأزمة السودانية، والتنصّل من الإقرار بمبادئ مثل علمانية الدولة، وحق تقرير المصير، والعدالة التاريخية، عبر الاكتفاء بالدعوة إلى مناقشتها في "مؤتمر دستوري جامع" بوصفها "قضايا خلافية"؛ ليس سوى محاولة لتأجيل ما لا يجوز تأجيله، وتسويف ما لا ينبغي التسويف فيه. وهنا من الواجب التذكير: هذه المبادئ، وفقًا للقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، ليست قضايا سياسية تخضع لتصويت الأغلبية، بل حقوق طبيعية غير قابلة للتفاوض أو التأجيل. فالحق في تقرير المصير مثلًا، مكفول في المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعلمانية ليست ترفًا أيديولوجيًا بل شرط قانوني لضمان حياد الدولة، ومبدأ أساسي لتحقيق المساواة أمام القانون. وقد أشار المفكّر "جوزايا أوبيري" بدقة إلى خطورة هذا النوع من الخطاب حين كتب: ."حين تصبح إنسانية الأقليات موضوعًا للتفاوض، تكون قد وقعت في فخ النظام القمعي" الأستاذ مهدي، وهو يعيش في بلد كأميركا – حيث أُقرت الحقوق الأساسية للسود من خلال تشريعات فوقية، لا عبر انتظار "توافق البيض" – يعلم تمامًا أن العدالة المؤجلة هي شكل من أشكال الظلم المُأسس. وأن هذا النوع من الخطاب – الذي يُسوّق لانتظار "مؤتمر جامع" – يعيد إنتاج منطق الاستعلاء النيلي الذي قاد إلى انفصال الجنوب، وإبادة دارفور، وتمييز جبال النوبة والنيل الأزرق لعقود. إن تأجيل مناقشة الحقوق الأساسية إلى لحظة "إجماع" مستحيلة، ليس حيادًا ولا واقعية، بل استمرار لبنية السيطرة القديمة، تلك التي كانت تعيد إنتاج نفسها عبر آليات "التوافق" لتفادي أي تغيير جوهري لذا نؤكد أن تحالف "تأسيس" لم يطرح هذه المبادئ من باب التصعيد، بل كضرورة أخلاقية وقانونية لا يمكن المساومة عليها. لأن المصالحة دون اعتراف، والعدالة دون مساءلة، ليست سوى تمويه للعنف البنيوي باسم السلام. وكما كتب الفيلسوف والتر بنيامين: ."كل وثيقة حضارة، هي أيضًا وثيقة همجية، إن لم تعترف بمن لم يُكتب اسمه فيها" وتحالف "تأسيس"، بهذا المعنى، هو أول مشروع منذ الاستقلال يكتب أسماء الذين لم يُعترف بهم من قبل، ويضعهم في صُلب العقد السياسي الجديد، لا في هوامشه. وهذا ما يخشاه كثيرون ممن ورثوا موقع "الكاتب"... ويريدون أن يواصلوا كتابة التاريخ بمدادٍ لا يعترف بضحاياه.
سادسًا: الدعم السريع، والتعقيد، والمزايدة: يركّز الأستاذ مهدي على حمل السلاح، و "الدعم السريع" وملف حقوق الانسان لتقويض "تأسيس"، لكنه يتجاهل أن السؤال الحقيقي ليس في من يحمل السلاح، بل من يطرح مشروعًا واضحًا للحكم والحوكمة. تحالف "تأسيس" هو الوحيد الذي ينص صراحة على مبدأ العدالة وعدم الإفلات من العقاب، بما في ذلك المحاسبة الداخلية. المادة (11) من دستوره تنص: ."لا حصانة لأي جهة، والمساءلة تطال الجميع دون استثناء، بمن فيهم الموقعون على الميثاق" والقائد عبد العزيز ادم الحلو، في لقاء موثّق، صرّح بوضوح: "أي زول ارتكب جريمة يُحاسب، حتى لو من الحركة الشعبية" هل قال ذلك أي من زعماء أحزاب الخرطوم؟ هل قالت الحرية والتغيير – بنسخها المختلفة – إنها ستفتح ملفات انتهاكات الجيش أو الأمن أو الإسلاميين؟ الإجابة معروفة.
سابعًا: تحالف "تأسيس" ليس مشروع نخبة بل كتلة تاريخية: ما يرفض أن يفهمه الأستاذ مهدي هو أن تحالف "تأسيس" ليس تحالف نخب، بل كتلة تاريخية تتشكل من قوى كانت تاريخيًا خارج المعادلة: قوى الهامش، الحركات المسلحة، قوى علمانية، مجتمع مدني جديد، ومثقفون سودانيون يعيدون تعريف الدولة. ـ الفرق بين "الجبهة العريضة" التي ينادي بها هو والكثيرين غيره، و"الكتلة التاريخية"، هو الفرق بين البيروقراطية والثورة. الجبهة العريضة تُوزّع الحصص. الكتلة التاريخية تُنتج المفاهيم الجديدة. ومَن يخاف من هذا التحول، يلبس قناع "الحياد"، بينما هو يراهن على التوازنات القديمة. ـ ولأن تحالف "تأسيس" – عكس ما يدّعي الأستاذ مهدي– ليس تحالفًا مسلحًا فحسب، بل كتلة تاريخية تضم 23 تنظيمًا سياسيًا ومدنيًا، بأوزان متفاوتة، وموزعة على كامل جغرافيا السودان من جبال النوبة إلى دارفور والشرق والشمال. ـ الحركة الشعبية ليست ميليشيا... بل نموذج بديل في الحكم. إن اختزال الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، في أنها "حركة مسلحة" هو تبسيط يفتقر إلى الدقة، بل يحمل استخفافًا غير مبرر بتجربة حكم معقّدة وناجحة في منطقة جغرافية تقارب مساحة رواندا وبروندي مجتمعين. هذه الحركة، وعلى مدى أكثر من عقد، أقامت نظامًا إداريًا، وعدالة محلية، ومؤسسات تعليمية، وخدمات اجتماعية في ظروف حرب مستمرة. فهل يمكن للأستاذ مهدي أن يُسمي حكومة واحدة في المركز – خلال 67 عامًا من الاستقلال – استطاعت أن تدير هذا النوع من الحكم غير المبني على النهب أو الزبونية أو التمكين الحزبي؟
ثامناً: التاريخ لا يعيد نفسه... والكتلة التاريخية ليست الجبهة العريضة: تحالف "تأسيس" وثورات الجنوب الكوني: عندما يُخشى وضوح المشروع: إن محاولة الأستاذ مهدي داوود الخليفة نزع الشرعية عن المقاربات الثورية لتحالف "تأسيس"، بحجة أن رموز الثورات الكبرى مثل توماس سانكارا، تشي غيفارا، ومانديلا كانوا "يملكون قواعد شعبية"، هي مقاربة تختزل التاريخ في لحظاته النهائية، وتتجاهل كيف بدأت هذه الثورات أصلًا، ومن هم أول من خاف منها... وما الذي يشبهنا نحن السودانيين فيها: - تشي غيفارا لم يكن يملك أي قاعدة شعبية حين وصل بوليفيا عام 1966، بل قوبل بالرفض وحتى بالخيانة من بعض اليسار البوليفي نفسه. كانت رسالته الثورية الأممية، لا شعبيته، هي ما هدّدت السلطة والنخب المهترئة. بل إن الولايات المتحدة دعمت اغتياله فقط لأنه مثل نموذجًا "يُحتذى" في التضحية من أجل التغيير، لا لأنه كان قائدًا لجيش جرّار - نيلسون مانديلا لم يكن مرشحًا في انتخابات عامة حين أصبح رمزًا، بل كان سجينًا مدى الحياة بتهمة الإرهاب، ورفض أن يُفرج عنه مقابل التنازل عن مبادئه. لم تكن شعبيته تأتي من ترشيح ديمقراطي، بل من وضوح قضيته واستعداده لدفع الثمن. - توماس سانكارا لم يصل عبر صناديق الاقتراع، بل عبر انقلاب داخل المؤسسة العسكرية البوركينية. لكنه خلال أربع سنوات فقط، أسّس لسياسات سيادية، وتعليم جماهيري، وتحالفات مع الفلاحين والنساء جعلت منه أيقونة أفريقية ضد الامبريالية، رغم قصر فترة حكمه.
الحركة الشعبية شمال: تشابه في الجوهر، اختلاف في الجغرافيا: إن الثورة التي تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ليست هامشًا في التاريخ، بل امتدادٌ طبيعي لتلك الحركات التي نشأت ضد الدولة ما بعد الكولونيالية التي ورثت أدوات القمع من المستعمر وأعادت توطينها داخل حدودها. هذه الحركة، منذ أن ورثت جزءًا من إرث السودان الجديد بعد 2011، قدّمت نموذجًا بديلًا لحكمٍ محلي في مناطق تحت سيطرتها – تقارب مساحتها دولتي رواندا وبوروندي – وأدارتها عبر مؤسسات منتخبة محليًا، ومحاكم أهلية، وتعليمٍ مستقل، وفرضت نوعًا من النظام والانضباط في ظل غياب كامل للدولة المركزية. لم تكن هذه عدالة شعارات، بل ممارسة. لماذا يستخسرها البعض؟ وما الذي يثير الرعب من مشروع "تأسيس"؟ ما يخشاه الأستاذ مهدي ومن علىيتفق معه في تقديري من نخب السودان القديم، ليس "غياب القاعدة الشعبية" كما يزعمون، فالقوى المدنية التي يتكئون عليها لم تُظهر في أي لحظة أنها قادرة على تنظيم شارع أو حماية مظاهرة أو إسقاط مركز قوة. ما يخيفهم حقًا هو أن "تأسيس" يطرح مشروعًا مكتملًا. مشروع واضح المعالم، لا يطلب موافقة من المركز، ولا يتوسل إلى نخب الخرطوم. إنه يتحدث عن العلمانية بوضوح، وعن العدالة التاريخية بلا اعتذار، وعن حق تقرير المصير كحق إنساني، وعن تفكيك الجيش وإعادة بنائه. هذه الرؤية الواضحة تضعهم أمام عجزهم البنيوي: إذ لا يملكون مشروعًا بديلًا، ولا خيالًا سياسيًا يتجاوز شعارات "الدولة المدنية" التي لا تعني شيئًا في واقع منهار. التحليل النفسي: النخب القديمة وقلق الهوية: في التحليل النفسي الاجتماعي، كما يقول عالم النفس السياسي إريك فروم، فإن النخب التي كانت دومًا في مركز القرار تُصاب بما يشبه "فقدان الامتياز الرمزي" حين تنهار البنية التي لطالما منحتها شرعية وجودها. هذا يؤدي إلى شكل من الإنكار الدفاعي، حيث يتم التقليل من شأن كل ما يهدد مركزها التاريخي، حتى وإن كانت الوقائع الجديدة أكثر عدلًا وإنسانية. وهنا نفهم لماذا ترفض هذه النخب الاعتراف بتجربة ثورية في وطنها، وتفضّل تمجيد ثورات غيفارا ومانديلا وهي مرتاحة لأنهم "في الخارج"، بينما ترى في الحركة الشعبية ورفاقها خطرًا على ما تبقى من المركز القديم. لأنها، ببساطة، تذكّرهم بأنهم الطرف الذي ثُور عليه! كما كتب فرانز فانون: "حين يتحدث المستعمَر عن الحرية، يرى المستعمِر في ذلك جريمة. ليس لأنه يرفض الحرية، بل لأنه يرفض أن تكون للآخرين". وهكذا، فإن ما يرفضه الأستاذ مهدي ليس السلاح، بل الفكر. ليس التحالف، بل الوضوح. ليس الطريقة، بل الفاعلية.
خاتمة في الصراحة والموقف: تحالف "تأسيس" لا يدّعي الكمال، لكنه يمتلك ما عجزت عنه النخب المركزية منذ الاستقلال: الوضوح في تسمية الجذور، والجرأة في اقتراح حلول بنيوية، لا ترقيعات شكلية. هو التحالف الأول الذي يبني مشروعه على مفاهيم المواطنة المتساوية، العدالة التاريخية، العلمانية، وحق تقرير المصير كحقوق لا تقبل التأجيل ولا الابتزاز. وكل من يحاول أن "يستخسر" هذه التجربة، إنما يرفض – في جوهر موقفه – أن يكون لأبناء الهامش، ولمن قاوموا دولة الإقصاء والاستعلاء، الحق في صياغة مشروع الدولة لا في التماهي مع ما يُملى عليهم من المركز. ما طرحه الأستاذ مهدي ليس مجرد رأي مختلف، بل رغبة ناعمة في إعادة تعريف التأسيس من داخل البنية القديمة، ومن خلال آليات تَحكمها ذات العقول التي مارست الإنكار لعقود. كأن المطلوب من ضحايا الاستعلاء أن يطلبوا من الجلاد أن يصوّت على إنسانيتهم، أو أن يفاوضوا على حقوقهم في قاعة فُصّلت بمقاييس المركز وتاريخ نخبه. وهذا – كما يجب أن يُقال بوضوح – ليس فقط خطأً سياسيًا فادحًا، بل سقطة أخلاقية. وكما كتب الفيلسوف آلان باديو: ."الثورة لا تطلب من الضحية إثبات إنسانيتها... بل تُعيد تعريف الإنسان من مكان تلك الضحية" لهذا، لا نطلب إذنًا من أحد. ولا ننتظر أن يصوّت أحد على حقنا في المساواة والكرامة. نحن نبني مشروعًا... مشروعًا مفتوحًا لمن يريد الانخراط فيه بشجاعة، لا بمراوغة. أما أولئك الذين ما زالوا ينتظرون أن تمنحهم نخب الماضي "رخصة تفكير"، فربما يصلهم قطار "تأسيس"... حين لا يكون على متنه أحدٌ ينتظرهم. النضال مستمر والنصر اكيد
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة